هذا المقال بقلم فهمي هويدي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
مفاجآت الانتخابات المغربية أضافت البلد إلى قائمة الاستثناء العربى بجدارة.
(1)
أتحدث عن الاكتساح الذى حققه حزب العدالة والتنمية المغربى فى الانتخابات التى جرت فى الرابع من شهر سبتمبر الحالى. ليس فقط لأن الحزب معروف بمرجعيته الإسلامية، ولكن أيضا لأن النتائج بدت مقدمة مثيرة للانتخابات التشريعية التى يفترض أن تجرى فى العام المقبل. ذلك أن الحزب الذى يقود التحالف الحاكم ضاعف من الأصوات التى حصلها ثلاث مرات بالمقارنة بالانتخابات المحلية التى جرت فى عام ٢٠٠٩. كما انه حصل على المركز الأول فى عدد الأصوات التى حصل عليها فى المدن (مليون و٦٧٢ ألف صوت) كما فى القرى (مليون و٥٥٩ و٨٠٠ صوت) بفارق عشرات الألوف من الأصوات بالمقارنة بالأحزاب الكبيرة الأخرى. مع ذلك اختلف الأمر بالنسبة لنصيبه من المقاعد فى الحالتين، إذ احتل المركز الأول فى مقاعد مجالس المدن، وجاء بعده حزب الأصالة والمعاصرة المقرب من القصر الملكى، وبعد الاثنين حزب الاستقلال صاحب الرصيد التاريخى. وهو وضع اختلف فى القرى المنتشرة والتى أعيد تقسيم الدوائر فيها. إذ رغم أن حزب العدالة حصل على النسبة الأكبر من الأصوات، إلا أن ترتيبه جاء الثالث فى عدد المقاعد. إذ سبقه حزب الأصالة والمعاصرة الذى احتل المركز الأول، وتلاه حزب الاستقلال. وحكاية تقسيم الدوائر والمقاعد لها قصة طويلة، لأنها لم تكن بريئة دائما. ذلك أن إقليم تارودانت مثلا الذى يضم ٤٠٠ ألف ناخب خصص له ١٥٠٠ مقعد، فى حين أن الدار البيضاء التى يقطنها خمسة ملايين نسمة خصص لها أقل من ٥٠٠ مقعد، وهو ما تكرر فى مناطق أخرى. مع ذلك فالتقاسم لا يخلو من ايجابية لأنه من وجهة النظر الديمقراطية ليست هناك مصلحة فى ان يحتكر حزب واحد صدارة المجالس فى الحضر والبادية، لأن المعارضة مطلوبة حتى على ذلك المستوى من التمثيل.
فى ثنايا المفاجأة الكبرى أبرزت التفاصيل مفاجآت أخرى منها مثلا ان المدن الكبرى التى ظلت طوال السنوات التى مضت تدار بواسطة الأحزاب التاريخية صوتت جميعها لأول مرة لحزب العدالة والتنمية. وهو ما أحدث انقلابا أدى إلى سقوط وزراء وسياسيين تقليديين أمام أجيال جديدة من القيادات تخوض التجربة لأول مرة. ولفت الانتباه فى هذا الصدد إن الأمينين العامين لاثنين من الأحزاب الكبرى خسرا فى مدينتيهما، إذ سقط الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة مصطفى الباكورى فى مدينة المحمدية، كما سقط الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط فى مدينة فاس، التى كانت تعد من القلاع التاريخية لذلك الحزب. وبذلك التصويت أصبحت العواصم المهمة للملكة تحت قيادة حزب العدالة والتنمية. من العاصمة الإدارية (الرباط) إلى العاصمة الاقتصادية (الدار البيضاء أكبر مدن المغرب) والعاصمة العلمية (فاس) ومراكش وأكادير وطنجة، وهى المدن السياحية الأساسية المليئة بالأنشطة والملاهى التى قد تمثل اختبارا لتوجهات رئيس المنطقة الجديد المنتمى إلى الحزب الإسلامى.
(2)
فى تحليل تلك النتائج كتب الناشط السياسى والصحفى المغربى على أنوزلا ــ المعارض وأحد خصوم الإسلام السياسى ــ تحليلا نشره فى ٩ سبتمبر موقع «صدى نيوز» ــ وصف فيه انتصار إسلاميى المغرب بأنه «مبهر». وقال ان عنصر المفاجأة فى الانتخابات لا يكمن فقط فى نتائجها، وإنما أيضا فى السياقات الصعبة التى جاءت فى ظلها. ولخص تلك السياقات فى أربعة عوامل، أولها ضغوط السلطة والدوائر المرتبطة بالقصر. وهذه الدوائر لا تنظر بعين الرضا لقيادة الإسلاميين للحكومة.
العامل الثانى ان الانتخابات كانت بمثابة أول اختبار حقيقى لإسلاميي المغرب منذ وصولهم إلى قيادة الحكومة. وقد تم تأخير تلك الانتخابات أربع سنوات من أجل إضعاف الحزب واستنزافه. خصوصا انه اضطر لاتخاذ قرارات غير شعبية تمثلت فى زيادة أسعار المحروقات ورفع الدعم الذى كانت تقدمه الدولة لأسعار المواد الأساسية، كما ان رئيس الحكومة أجبر فى أكثر من مناسبة على تقديم تنازلات للقصر فى أمور هى من صلاحياته طبقا للدستور المغربى الجديد. إضافة إلى تعرض بعض مشاريع حزب الإصلاح التى طرحها الحزب إلى عراقيل من جانب مراكز القوى الرافضة للتغيير، وبعضها مدعوم من السلطة.
العامل الثالث أن الإعلام الرسمى الذى تحتكره السلطة إضافة إلى الإعلام الخاص الذى تتحكم فيه مراكز القوى وشبكات المصالح، تم تسخيرها طوال السنوات الأربع للنيل من تجربة الحكومة الإسلامية وإضعافها وتشويهها أمام الرأى العام. وفى مقابل ذلك كان هناك ضعف واضح للإسلاميين فى الدفاع عن مشاريعهم وتسويق انجازاتهم ومواجهة خصومهم على الجبهة الإعلامية.
العامل الرابع أن الانتصار «المبهر» لإسلاميى المغرب جاء فى سياق إقليمى بطبيعة التراجع الكبير للإسلام السياسى فى المحيط العربى، إضافة إلى التراجع النسبى للنموذج الأردوغانى النسبى الذى ظل لعدة سنوات يجسد نموذجا تسعى تيارات الإسلام السياسى فى المنطقة العربية إلى تقليده. وهو ما ينبئ بميلاد نموذج إسلامى سياسى عربى فى المغرب، طابعه الاعتدال والبراجماتية السياسية.
خلص الكاتب إلى أن نجاح حزب العدالة والتنمية يقاس بأمرين مهمين. الأول أنه نجح فى اختراق الطبقة الوسطى التى تقطن المدن. ذلك أن أغلب فئات هذه الطبقة التى لا تشارك الحزب الإسلامى تصوره المجتمعى أصبحت ترى فيه بديلا. جسَد نزاهة اليد ومواجهة الفساد.
الأمر الثانى الأهم ان خطاب الأمين العام للحزب (رئيس الحكومة) عبدالإله بن كيران، الذى ركز طوال الحملة الانتخابية على مهاجمة مراكز نفوذ السلطة، ساهم فى زحزحة هاجس الخوف الذى بدا يعود ليتحكم فى عقول الناس بعدما أزاحته ثورات الربيع العربى. وفى رأى الكاتب ان «العدالة والتنمية» إذا لم ينجح سوى فى هذه النقطة الأخيرة لكتبت له بماء الذهب فى ميزان أعظم انجازاته التى قد يتجاوز أثرها حدود المغرب.
(3)
فى عام ٢٠٠٣ حين وقعت الأحداث الإرهابية فى الدار البيضاء، سارع منافسو حزب العدالة والتنمية وخصومه إلى توجيه أصابع الاتهام إليه، بدعوى أن وجوده على الساحة أسهم فى تنشيط الحركات السلفية المتشددة التى كانت وراء تلك الأحداث. وارتفعت أصوات اليساريين وغلاة العلمانيين داعية إلى حل الحزب وحظره. ووضع مشروع الحل على جدول أعمال الحكومة بطلب من وزراء اليسار، إلا أن الملك محمد السادس تدخل من جانبه لوقف الاحتقان السياسى. ومن ثم واصل الحزب مشاركته فى الحياة السياسية من خلال عضوية البرلمان الذى مثل فيه آنذاك بـ٤٢ عضوا نجحوا فى الانتخابات التشريعية التى تمت عام ٢٠٠٢. إلا أن ذلك لم يوقف حملة التشهير التى قادها الإعلام ضده، من منابره التى كانت الدولة العميقة فى صدارتها إلى جانب الأحزاب المنافسة، ولو قف تمدده ظهر فى الساحة حزب الأصالة المعاصرة الذى تشكل فى عام ٢٠٠٨ وكان مؤسسة وزير الداخلية السابق ومستشار الملك فؤاد عالى الهمة. وفى حين رفع حزب العدالة والتنمية (الذى شكل عام ١٩٩٧) شعارات محاربة الفساد وضمان الاستقرار والتنمية والعدالة، فإن حزب الأصالة قدم نفسه منافسا له ومناهضا للرجعية والتزمت وداعيا إلى التحرر والليبرالية والحداثة، وبدا التفاوت فى الخطاب معبرا عن استراتيجية الحزبين، فحزب العدالة اعتبر ان معركته خدمة المجتمع فى حين أن حزب الأصالة اختار منذ اللحظة الأولى ان تكون معركته ضد مشروع حزب العدالة.
كان حزب العدالة قد أعلن منذ تأسيسه فى عام ١٩٩٧ (عام الثورة الإيرانية) أنه «حزب سياسى وطنى يسعى انطلاقا من المرجعية الإسلامية وفى إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين، إلى الإسهام فى بناء مغرب حديث وديمقراطى». وفى الممارسة قدم نموذجا مغايرا قام على عدة ركائز لخصها فى النقاط التالية الدكتور سعد الدين العثمانى رئيس المجلس الوطنى للحزب (ملجس الشورى) ووزير الخارجية السابق.
< استقلال الحزب عن الحركة الإسلامية (التوحيد والإصلاح) التى خرج من عباءتها، من ثم فإنه فك ارتباط الجهد الدعوى بالعمل السياسى، وانفرد بالأخير بعيدا عن الحزب.
< اختار طريق العمل السياسى السلمى الذى يعمد إلى تحقيق الإصلاح اهتداء بالثوابت الوطنية المتعارف عليها، ومن خلال المؤسسات الديمقراطية المنتخبة وبالتعاون قدر الإمكان مع القصر المهيمن على السلطة.
< التدرج فى ممارسة العمل العام من خلال الدفع بأعداد محدودة فى مختلف الاستحقاقات الانتخابية.
< رفع شعار المجتمع قبل الجماعة، لذلك فإن الالتزام ظل محصورا فى محاربة الفساد وتحقيق التنمية.
< رفض الانفراد والسلطة والانطلاق من التعاون مع القوى السياسية الأخرى تكريسا لمبدأ الشراكة.
لذلك فإن الائتلاف الحاكم أصبح يقوم إلى جانب حزب العدالة والتنمية على مشاركة وزراء مثلوا أحزاب التجمع الوطنى للإصرار (ليبرالى مقرب من القصر) والحركة الشعبية (يمينى أقرب إلى تمثيل الأمازيغ) وحزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعى سابقا).
بهذه التشكيلة قاد حزب الأغلبية إدارة المغرب خلال السنوات الأربع الماضية، وتجنب الصدام مع القصر طوال الوقت، حتى حل موعد الانتخابات الأخيرة التى وصف رئيس الحكومة والأمين العام للحزب عبدالإله بنكيران نتائجها بقوله إن الشعب المغربى رد لحزبه التحية بأفضل منها.
(4)
ليست تلك نهاية المطاف بطبيعة الحال، لأن القادم حافل بالعديد من التفاعلات والاحتمالات. من ناحية لأن دخول حزب العدالة والتنمية بهذا الثقل إلى إدارة المدن الكبرى يحوله إلى فاعل أساسى فى الشأن المحلى من خلال الاحتكاك المباشر بالجماهير. وهو أمر من شأنه أن يُحدث تأثيرا كبيرا فى الانتخابات التشريعية القادمة.
من ناحية ثانية فإن النتائج التى تحققت تثير أكثر من علامة استفهام حول مستقبل علاقة الحزب بالقصر، الذى فوجئ بمضاعفة الأصوات التى حصل عليها حزب العدالة والتنمية. وفى رأى المحلل السياسى المغربى خالد الجامعى ان العادة جرت على ان يتراجع رصيد الحزب الذى يمارس السلطة. وهو ما راهن عليه القصر الذى لا يريحه ان يتعامل مع حزب قوى تتزايد شعبيته. إلا أن القصر سيضطر للتعامل معه. أقله لأنه سيكون بحاجة إليه لتمرير ما لا يستطيع تمريره فى حالة ما إذا أصبح الحزب فى المعارضة. ويرجع الأستاذ الجامعى أن القصر سيحاول إحداث توازن فى مواجهة حزب العدالة والتنمية، من خلال السعى لضخ مياه جديدة تقوى من حزبى الاستقلال والاتحاد الاشتراكى فى مواجهته.
من ناحية ثالثة، لأن النتائج استنفرت الأحزاب السياسية الأخرى وأججت التنافس والصراع بينها، بعدما تبين أن حزب العدالة يهدد نفوذها ووجودها. وقد أصبح الصراع يهدد التحالفات القائمة، خصوصا فى ظل التنازع على رئاسة المدن والبلديات.
لا يستطيع أحد أن يدعى أن متغيرا جوهريا طرأ على بنية النظام المغربى الذى لايزال القصر فيه مهيمنا وممسكا بأغلب وأهم خيوط اللعبة السياسية. لكن أحدا لا يستطيع ان ينكر ان الشعب المغربى الفائز الأول فى الانتخابات، رفع صوته وأصبح أمله فى التغيير أكبر بعد انتفاضة ٢٠ فبراير ٢٠١١ التى كانت من أصداء الربيع العربى حين هبت رياحه فى ذلك العام. صحيح أن الشوط لايزال طويلا لإنجاز التغيير الديمقراطى المنشود، إلا أن إحياء الأمل فى إحداث ذلك التغيير له أهميته. لأن بعض تجارب الربيع العربى انتكست إلى درجة انها لم تحدث التغيير بل وأجهضت الأمل فى تحقيقه فى الأجل المنظور.