هذا المقال بقلم أسامة دياب، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أن الآراء الواردة أدناه لا تعكس بالضرورة وجهة رأي CNN.
يكفيك أن تنظر إلى ردود أفعال المواطنين في مصر بشأن خبر القبض على صلاح دياب للتحقيق معه في اتهامه بالفساد المالي لتستنبط الكثير عن "استراتيجية" الدولة لمكافحة الفساد. الانطباع العام عند الغالبية -حتى وإن لم يكن دياب بريئا- أن المسألة لا علاقة لها بالفساد المالي أو الاستيلاء على الأراضي، فالفساد مستشر والكثير يرتكب مخالفات، ولكن لا يتم اتخاذ الإجراءات القانونية ضد هذا الكثير. ما يتردد على لسان حال الكثيرين أن الأمر برمته عبارة عن تصفية حسابات أو ضجر النظام بصلاح دياب لسبب ما لا علاقة له بالفساد.
هل المسألة لها علاقة بالخط المستقل التي تحاول أن تتبناه جريدة المصري اليوم التي يملكها دياب كجزء من حملة أكبر على أي إعلام يحاول أن يحتفظ لنفسه ولو قدر بسيط من الاستقلالية؟ هل للأمر علاقة بحديث تم تسجيله لدياب أثار غضب القيادة السياسية في البلاد؟ هل الموضوع له علاقة بصراع دائر بين الأجهزة الأمنية ورجال الأعمال؟ ألم يكن دياب من المقربين للسلطة وقام بالتبرع بـ 7.5 مليون دولار لصندوق تحيا مصر الذي يشرف عليه رئيس الجمهورية بنفسه؟
كل هذه الاحتمالات كانت وما زالت مطروحة من قبل المتابعين، إلا الاحتمال الذي تعلنه الدولة وهو رغبتها في ملاحقة الفساد والفاسدين.
***
يعد هذا إشارة خطيرة جدا تعبر عن إدراك الناس -حتى لو كان إدراكاً غير واع- بأن "مكافحة الفساد" ما هي إلا أداة في يد السلطة للتنكيل بمعارضيها أو حتى بحلفاء الأمس. من أين يأتي هذا الإدراك وماهي أسبابه؟ سبب هذا الإدراك في تصوري هو استئثار السلطة التنفيذية -أو الحكومة- بملف "مكافحة الفساد" وعدم وجود آليات مستقلة ومحترفة لملاحقة الفساد كممارسة مجرمة قانونا بشكل ممنهج يخضع له الجميع، بدلا من ملاحقة أشخاص بشكل موسمي وانتقائي في “قضايا فساد كبرى” تحتل مانشيتات الصفحات الأولى للصحف الحكومية.
فها هي سلطة تحقيق تقوم بدور مماثل لدور النيابة العامة تسمى جهاز الكسب غير المشروع، وكل اللجان التابعة لها ومنها لجنة استرداد الاموال المنهوبة، يرأسها شخص ذو منصب تنفيذي وهو وزير العدل. ألا يعد ذلك تداخلا بين سلطتي التنفيذ والقضاء؟ وها هو قانون تحصين العقود الذي حيد تماما القضاء الإداري وأبعده عن الفصل في أي منازعات بين الدولة والمستثمرين. وها هو قانون التصالح الأخير، الذي وضع التصالح في يد جهاز الكسب غير المشروع التابع للسلطة التنفيذية.
وأما الأجهزة الرقابية فحدث ولا حرج، فبعد إصدار الرئيس السيسي لقانون يبيح لنفسه عزل رؤساء الأجهزة الرقابية من مناصبهم، وقعت أيضا منظومة الرقابة في مصر بالكامل في يد رئيس السلطة التنفيذية. أما المجتمع المدني، فإنه صار تحت حصار شديد وحملة تشهير واتهامات بالتخوين والعمالة ومطاردة تجعله محدود القدرة في القيام بدوره في الرقابة المجتمعية على الفساد، وذات الأمر ينطبق على وسائل الإعلام التي تواجه حملة شرسة الآن بعد شكوى الرئيس من الإعلام في خطابه خلال الندوة التثقيفية للقوات المسلحة الأسبوع الماضي. باختصار، فإن ملف مكافحة الفساد بالكامل في يد السلطة التنفيذية، ومن ثم تملك الحكومة القدرة على تعطيل قضايا معينة وقتما تشاء، وتحريك غيرها وقتما تشاء.
***
لا تؤدي "استراتيجية" مكافحة الفساد تلك إلا لاستشراء الفساد. فمكافحة الفساد الفعالة لا تتم بالتعبير عن النوايا وإصدار الاستراتيجيات والخطط لمكافحتها، بل تتحقق فقط ببناء منظومة كفء ومستقلة يخضع فيها الجميع لمراقبة فعالة. فعندما أتيقن كرجل أعمال أنه لا يوجد أي معايير موضوعية مجردة يخضع لها الجميع بعيدا عن أهواء السلطة التنفيذية، فمن المرجح أن أمارس الفساد بيد، وأن أحاول أن أكسب ولاء الحكومة باليد الأخرى. فلا نزاهة اليد ستنصفني كرجل أعمال لو قررت السلطة النيل مني، ولا الممارسات الفاسدة ستؤذيني لو أبقيت على حبال الود متصلة مع السلطة. ما يحدث في هذه الحالة ليس إعلاء من قيمة القانون كرادع ضد الفاسدين، لكن إعلاء لـ"قيمة" التقرب من السلطة بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة كسبيل وحيد للنجاح الاقتصادي.
وبافتراض صدق نوايا الحكومة في مكافحة الفساد، فإنها لا تحتاج لجمع كل صلاحيات مكافحة الفساد في يدها من أجل ملاحقة الفاسدين ومفاجأتنا من الحين للآخر بـ "قضية فساد كبرى" كما حدث في قضية وزير الزراعة منذ بضعة أشهر ومع صلاح دياب الآن، بل تحتاج للعكس تماما، وهو التنازل عن الكثير من هذه الصلاحيات لأجهزة قضائية ورقابية مستقلة، وترك المجال لصعود مجتمع مدني حر ونشيط ومحترف ليقوم هو بملاحقة الفاسدين داخل الحكومة وخارجها.
على مر العصور والحكومات المتعاقبة، تم استخدام "مكافحة الفساد" كأداة للتنكيل السياسي والاقتصادي من قبل الحكومة لكن وفقا لمؤشرات الفساد، لا يبدو أن هذه الممارسة أدت أبدا إلى الحد من الفساد. أكبر مشكلة تهدد ملف مكافحة الفساد الآن هو غياب ثقة المجتمع الذي ما أن يسمع بالقبض على شخص في قضية فساد، إلا ويبدأ فورا في البحث عن الأسباب الحقيقية للقبض عليه بعيدا عن السبب الرسمي والمعلن. هل هو خلاف مع السلطة؟ هل هي نتيجة منافسة بينه وبين أحد أرباب السلطة؟ هل بسبب أرائه السياسية، أو حقن الحكومة من وسيلة الإعلام التي يملكها؟ وغالبا ما تأتي مكافحة الفساد في ذيل هذه القائمة من الاجتهادات والاستنتاجات، إن أتت على الإطلاق.