عاصم أبو حطب يكتب: نقاطع أم ندعم المنتجات التركية؟

الشرق الأوسط
نشر
7 دقائق قراءة
تقرير عاصم أبو حطب
عاصم أبو حطب يكتب: نقاطع أم ندعم المنتجات التركية؟
منظر عام لمدينة طرابزون في تركياCredit: OZAN KOSE/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم عاصم أبو حطب، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

أنت معنا .. أم ضدنا؟ .. يختصر هذا السؤال المزاج العام المسيطر على المصريين في سنوات ما بعد 2011، ففي ظل حالة الاستقطاب الشديدة التي اشتعلت شظياتها الأولى في أعقاب الثورة، تآكلت مساحات الموضوعية وهوامش حرية التعبير حتى أوشكت نيران الإقصاء أن تحرقنا جميعاً، فلقد أصبحنا لا نرى من ليس معنا إلا ضدنا أو علينا. وصارت هذه الثنائية الإقصائية تزاحمنا في كل مشهد، فما من قضية ولا موقف إلا وتجد الانقسام الذي أنبتته الولاءات المسبقة للهوية الفكرية والسياسية قد شطر المجتمع من أعلاه إلى أسفله بصورة حدية بالغة الانقسام لا تبني وطناً ولا تصنع مجداً، وإنما تخلق كل معطيات الفرقة والنزاع والتناحر

وفي هذه السطور، أناقش حلقة من هذا المسلسل، والتي إن بدت بعيدة عن موضوعاته التقليدية المعتادة، فإنها لا تزال تدور في فلك المشهد العام المسيطر على الأحداث في مصر. فخلال الأيام الماضية، اشتعلت فتيلة جديدة للجدل على صفحات الإنترنت ومنتديات التواصل الإجتماعي وانقسم المصريون إلى معسكرين أحدهما يدعو لمقاطعة المنتجات التركية كرد فعل على سياسات تركيا المعادية لمصر والداعمة للإرهاب- هكذا يقول أصحاب هذا الرأي، بينما ينادي المعسكر الآخر بدعم المنتجات التركية إما قناعةً بمواقف معينة لتركيا، أو بدعوات مساندتها- من باب الولاء والبراء- في أزمتها الراهنة مع روسيا- هكذا يقول أصحاب هذا التوجه. وفي الحقيقة، فإنني أستطيع أن أجد أسباباً- لا سيما التصعيد الاعلامي والشحن المعنوي- كثيرة قد تكون وراء تبني كل من الطرفين لوجهة نظره. ولكن ما يثير حيرتي ويدعوني حقاً للتساؤل: من أخبر هؤلاء المقاطعون أو أولئك المساندون أن مواقفهم من المنتجات التركية - أياً ما كانت- سيكون لها جدوى أو تأثير على الاقتصاد التركي؟ وطبعاً، أقصد هنا الأثر الإقتصادي والذي حتى يرقى لهذا المسمى لا بد وأن يكون معنوياً ومستدام الأثر.

***

إن الموضوعية في تناول وتحليل الأمور تحتم علينا أن نمتلك شجاعة الاعتراف بأن ما حققته تركيا منذ عام 2002 يعد انجازاً اقتصادياً بكل المقاييس. فخلال الفترة 2002-2014، بلغ متوسط معدل نمو الاقتصاد التركي حوالي 8.5% وأصبحت تركيا دولة من دون ديون، وارتفع نصيب المواطن التركي من الدخل القومي وفقاً لمقياس تعادل القوة الشرائية من حوالي 3500 دولار إلى نحو 15 ألف دولار، وارتفع حجم الصادرات من 36 مليار دولار إلى حوالي 157 مليار دولار. وأصبحت تركيا واحدة من أكبر عشر اقتصادات على مستوى العالم، ودخلت مجموعة العشرين التي تضم كبار اللاعبين في الاقتصاد العالمي. وقد كفلت هذه الإنجازات مجموعة من الخصائص المميزة للاقتصاد التركي من بينها أنه أصبح يتمتع بدرجة عالية من التنوع السلعي والتعدد السوقي؛ بمعنى أن الصادرات التركية لا تعتمد على منتج معين بدرجة كبيرة، كدول الخليج مثلاً التي تعمد على النفط ومشتقاته، ولا تتركز صادراتها في عدد محدود من الأسواق الاستيرادية، كتركز الصادرات المصرية مثلاً في عدد قليل من الأسواق الأوروبية والعربية، وإنما تتنوع صادراتها سلعياً وتتوزع جغرافياً على نطاق واسع من الأسواق مما يعطيها مناعة عالية ضد التقلبات السعرية والتغيرات السياسية والإقتصادية في الأسواق المستوردة، وهذا ما ثبتت صحته خلال الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالعالم خلال السنوات الماضية.

أما فيما يتعلق بلب الموضوع، فإن المتأمل في حركة التجارة البينية المصرية-التركية خلال العقدين الماضيين يجد أن حجم ومعدل نمو التبادل التجاري بينهما قد اتسم بالتواضع والبطء الشديدين مقارنة بتجارة كل منهما مع دول العالم الأخرى. فعلى سبيل المثال، بلغ متوسط قيمة الصادرات المصرية لتركيا حوالي 590 مليون دولار أمريكي خلال الفترة 1994-2014، ولم يتخطى حجم صادراتنا لتركيا حاجز المليار دولار إلا في أعقاب ثورة يناير 2011، حيث ارتفع من 926 مليون دولار عام 2010 إلى 1.4 مليار دولار عام 2011. ولا حاجة للتدليل على هامشية هذا الرقم خصوصاً لو علمنا أن مساهمة مصر في جملة الواردات التركية من العالم، والتي بلغت حوالي 242 مليار دولار في عام 2014، لم تتعدى 0.6%. بمعنى أخر، فإن تركيا تعتمد على دول غير مصر في تغطية 99.4% من احتياجات أسواقها المحلية. وعلى الجانب الآخر، وهو ما قد يكون أكثر أهمية بالنسبة لمعسكري المساندة والمقاطعة، فإن متوسط قيمة واردات مصر من تركيا خلال الفترة 1994-2014 قد بلغ حوالي 1.3 مليار دولار. وخلال عام 2014، بلغت الواردات المصرية من تركيا أعلى مستوياتها بقيمة 3.3 مليار دولار، ومع ذلك فهذه القيمة لا تمثل سوى 2% من إجمالي صادرات تركيا لدول العالم خلال الفترة 1995-2014. إذن؛ فأنت تقاطع أو تدعم 2% من اجمالي الصادرات التركية. فأي شئ تقاطع؟ وأي شئ تدعم؟ إن المنطق يقتضي منك قبل أن تمارس ضغطاً أن تمتلك أدوات الضغط والتأثير، ويقتضي منك أيضاً قبل أن تقدم دعماً أن تخلق وسائل المساندة والمآزرة.

***

أخيراً، إن لإدارة السياسة الخارجية أصول وقواعد، وللتجارة الدولية نظريات وقوانين، ولم أسمع يوما أن إدارة سياسة الدول وتجارتها الخارجية يمكن أن تخضع لنظرية "أولاد سليم اللبانين" التي ينص قانونها الأول على مبدأ "هاتعورني أعورك"، وإنما ترسم الدول مسارات سياساتها وتجارتها الخارجية بناءً على تحليلات دقيقة ودراسات متأنية لجدوى وتداعيات وانعكاسات هذه السياسات على المدى القصير والطويل. وحتى كتابة هذه السطور، فإنني لم أسمع-وأظنني متابعا جيدا- عن دراسة جادة أو تقييم علمي تم في مؤسسة متخصصة بمصر خرج بتوصيات محددة فيما يتعلق بمسار ومستقبل العلاقات المصرية التركية ومقاطعة أو دعم منتجاتها. إذن، فمن أين أتى المقاطعون أو الداعمون بالمعلومات التي بنوا عليها مواقفهم؟

إنني أدعو المنفصلين عن الواقع من محاربي طواحين الهواء، المدافعين عن قضايا لا أساس ولا وجود لها، أن يوجهوا حماسهم ونضالهم لما هو أصلح لأنفسهم وأنفع لوطنهم. وكفانا اختلافات واستقطابات لا تحكمها قناعات عقلية وأسانيد منطقية بقدر ما يحكمها الولاء المسبق والتعصب للهوية الفكرية والسياسية، وهو منطق أثبتت التجارب أن الكل فيه خاسر.