هذا المقال بقلم هانية صبحي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أن الآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
بالرغم مما يبدو من اهتمام على أعلى مستوى بإصلاح المناهج التعليمية لمحاربة التطرف، لم نر حتى الآن إلا تغييرات محدودة في هذا المجال. إن الإصلاح الحقيقي للمناهج ليس مرهونا بـ ”التأكيد على نبذ العنف“ أو إدراج ”الاعتدال والوسطية والتسامح“ كصفات إيجابية يطلب من الطلاب التحلي بها، ولا يتمثل في حذف فصل هنا أو إضافة فقرة هناك. فالطلاب لا يتجهون للعنف بعد قراءة قصة قصيرة عن الصقور والعصافير. بل أنه من الأجدر بالوزارة تفعيل تعليماتها الرسمية بمنع الضرب في المدارس ليتعلم الطلاب أن الاحترام وليس العنف هو الطريقة الطبيعية للتعامل مع الآخرين. وبعيدا عن الحذف والإضافة، فإن ما يواجهنا الآن هو ضرورة وضع إطار شامل لكل مادة بناء على استراتيجية مدروسة وفي ضوء أهداف وأولويات واضحة.
ويدفع هذا المقال بوجهة نظر مخالفة لما يتم طرحه حول هذا الموضوع. فصياغة ”مناهج ضد التطرف“ لا تعتمد على تنقيح الخطاب الديني وتناول مسائل الجهاد والشريعة ودور المرأة، بل تقريبا العكس من ذلك: الهدف هو توسيع مدارك الطلاب وآفاقهم على قضايا محلية وعالمية واهتمامات تنموية واجتماعية متنوعة لا تدور فقط حول مسائل الهوية. وبالطبع فإنه من الإيجابي أن يتم تحديث مناهج التربية الإسلامية، طالما أن ذلك لا يتركز فقط حول مراجعة بعض الفقرات التي تتعلق بالعنف أو القضايا الخلافية. بل يجب أن يكون الهدف هو إعادة صياغة الإطار الكلي لهذه المناهج لتقليل المحتوى الجاف المكرر في كل عام وتقديم مواد قوية ومقنعة من شأنها أن تدعم التربية الروحية والأخلاقية للطلاب.
ولكن اللغة العربية وليست المناهج الدينية هي التي يجب أن يكون لها أولوية الإصلاح. إن التطوير الشامل لمناهج فعالة وجذابة للغة العربية يعد ضرورة قومية قصوى لعلاج الحالة المتردية لمهارات القراءة والكتابة لدى الطلاب، وكل ما يترتب عليها من قدرتهم على التحصيل في سنوات الدراسة التالية. والهدف الأساسي هو تحبيب اللغة لنفس الطلاب والبعد عن المحتوى الجاف والتركيز على تنمية مهارات الكتابة والبحث والتفكير. وبصورة أكثر تحديدا، يجب أن تولي المناهج اهتماما كافيا بتعريف الطلاب بالتراث الثقافي المصري والعربي المعاصر. ويجب أن يتم التنويع بين الروايات والقراءات التي تركز على الفتوحات والجهاد أمثال عقبة بن نافع ووا إسلاماه، التي يتم تدريسها من عشرات السنين بدون تغيير أو تطوير، وروايات أخرى مما يزخر بها الأدب المصري والعربي المعاصر، الذي تتجاهله المناهج لسبب غير مفهوم. ويجب بشكل عام إعطاء مساحات أكبر للقراءات التي تركز قضايا محلية وعالمية هامة تثري من ثقافة الطلاب وقراءات تتخذ القانون والدستور والأطر المؤسسية للدولة كمرجعيات رئيسية.
شاهد: أيزيديات هربن من داعش.. يشاركن لحظات حياتهن بالتصويروكما أن لدينا أزمة في مناهج اللغة العربية فإن مناهج التاريخ الركيكة، بعرضها الجاف الممل التي يدور حول حفظ التواريخ والأحداث، تجعل الطالب يمقت التاريخ ولا يخرج منه بعلم يذكر. فكتب التاريخ أيضا يجب أن تعاد صياغتها تماما بطريقة أكثر توازنا وانفتاحا وحيوية. فالمناهج الحالية لا تقدم تقريبا أية معارف عن الحضارات الأخرى، سواء عن تاريخها أو ثقافاتها أو آدابها أو فنونها أو ثوراتها أو حروبها. وقد تكون مصر من قلائل الدول التي لا تشمل مناهجها محتوى حقيقي عن الدول الأخرى، سواء كان ذلك عن إندونيسيا وماليزيا وباكستان، أو روسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا، أو حتى إفريقيا أو دول عربية أخرى سواء في الخليج أو المغرب أو المشرق. هي كتب منغلقة على ذاتها تركز فقط على مصر، وخاصة الحضارة الفرعونية وجانب من التاريخ الإسلامي. وهي بهذا لا تنمى لدي الطلاب أية دراية أو اهتمام بالعالم الخارجي وتجعلهم أكثر قابلية للتعصب والشك في الآخر. ومن فوائد التعرف على تاريخ الدول الأخرى وقضاياها دعم الإحساس بالإخاء الإنساني مع باقي شعوب العالم التي عانت الفقر والحروب والاحتلال، وإدراك أن المسلمين ليسوا هم وحدهم في ذلك. هذا بالإضافة إلى التعرف على التاريخ المعاصر للمجتمعات المسلمة والعربية والإفريقية المجاورة. إن انغلاق المناهج الشديد يحرم الطلاب من المعارف المقارنة التي تمكنهم من التفكير في مشاكل بلادهم في ضوء تجارب الدول الأخرى. وبصورة عملية، فإن إصلاح مناهج التاريخ يجب أن يستحدث على الأقل كتابين أحدهما مثلا عن ” تاريخ وثقافات العالم“ والآخر عن ”تاريخ العالم العربي والإفريقي المعاصر“، وذلك حتى استكمال تطوير مناهج جديدة عبر سنوات التعليم المختلفة.
المزيد: عام على اختطاف فتيات "تشيبوك".. نيجيريا والعالم يتذكرون المأساة ويترقبون نهاية مفجعة
وفي إطار الخروج من الذات ومن الجدل حول قضايا الهوية، يجب إعادة صياغة مناهج الدراسات الاجتماعية بحيث تمد الطالب بوعي حقيقي عن القضايا الاجتماعية والصحية والبيئية الهامة في مجتمعه المحلي وفي مصر والعالم. ولا يجب ” إقصاء“ مثل هذه القضايا الحيوية إلى مناهج التربية الوطنية والمواطنة التي لا يعير لها الطلاب والمعلمين بالا. بل والأجدى إلغاء تلك المواد وتكاليف طبعها ودمج مواضيعها الجيدة في المواد التي تدخل في مجموع الطلاب. ويجب هنا التأكيد على ضرورة أن تكون المناهج صادقة في عرضها لأحوال البلاد وأن تعترف بمسؤوليات الدولة وحقوق المواطنين، وذلك لكي تتسم بالحد الأدنى من المصداقية للطلاب بدلا من أن يسخروا منها ويستهينوا بها. ويجب أن يتمكن الطلاب من مناقشة مشاكل البلاد في المدارس، وليس فقط مع الجماعات المتطرفة. وبصورة عملية، فإن استحداث منهج قوي عن "قضايا التنمية في مصر والعالم" لا يمثل أي تهديدا للنظام، بل من شأنه أن يساعد الطلاب أن يتفهموا أن المشاكل التي تواجهها بلادهم، من الفقر لضعف التعليم والبطالة، موجودة في جميع أنحاء العالم وحتى الدول الغنية. والهدف أن يكون ذلك جزءا من إصلاح شامل لمناهج الدراسات الاجتماعية. وأن ينبع من ذلك توجه أوسع لتدريس العلوم الاجتماعية في الجامعات وفي الكليات العلمية، لموازنة ما نعلمه من انخراط طلبة الهندسة والعلوم بنسب أكبر في الجماعات المتطرفة.
ولكن لتحقيق مثل هذا الإصلاح الحقيقي للمناهج بعد عقود من الركود، يجب استحداث آليات مختلفة تماما عما أدي بنا إلى الوضع الحالي. وتتمثل أولى خطوات هذا الإصلاح في تكوين هيئة من أفضل الخبرات والعلماء والمثقفين تقوم بالإشراف على وضع استراتيجيات عامة جديدة لكل مادة، يعمل على ترجمتها إلى مناهج متطورة فرق من الباحثين والخبراء الأكفاء يصيغون كتبا وطرق تقويم حديثة تعتمد على الأنشطة وتعدد الوسائل التعليمية والمشاريع البحثية وورش العمل. ولن يتسنى ذلك إلا بتخصيص الموارد الكافية لهذا العمل الوطني الهام، وبمراعاة الشفافية في اختيار الكفاءات البعيدة تماما عن مصالح مافيا الدروس الخصوصية والكتب الخارجية ولجان تأليف الكتب في الوزارة التي وقفت حائلا أمام مثل هذا التطوير لسنوات طويلة.
وتطوير كهذا لا يمكن أن يتم إلا في إطار جهد أشمل لإصلاح التعليم. وكما أن المقابل الحقيقي لمناهج ركيكة منغلقة على الذات هو مناهج متطورة منفتحة على مواضيع ورؤى متعددة، فإن المقابل الحقيقي للتطرف وميل الشباب إليه هو التنمية والعدل وبناء مؤسسات الدولة وأولها إصلاح تعليمها المتدهور.