هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
عشية تنحي مبارك كانت كل الفضائيات المحلية والعربية والدولية تحتفل بنجاح الثورة المصرية ودارت الحوارات في معظمها حول "من يخلف مبارك؟"، كان السؤال نفسه يتردد في المحافل الأكاديمية وفى الأروقة السياسية وكانت الإجابات في معظمها تذهب لصالح الإسلاميين بشكل عام وجماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص. الحقيقة أن معظم الندوات والمؤتمرات والكتابات الأكاديمية، فضلا عن الاجتماعات السياسية بالإضافة إلى عدد من مقالات الرأي في الأشهر القليلة التي تلت ١١ فبراير ٢٠١١ لم تناقش كثيرا مسألة سقوط النظام أو استبداله، بقدر ما ناقشت مسألة خلافة مبارك، ورغم أن هذا النقاش قد يعزي إلى محدودية الأفق وسوء التقدير بالاعتقاد أن سقوط مبارك يعني سقوط النظام، إلا أنه يعبر في جانب منه أيضا عن انتهازية السياق الإقليمي والدولي الذي دفع المشهد المصري للبحث عن "رئيس "باعتبار أن شغل منصب الرئيس هو الهم الأكبر للثورة، ولكنه في الواقع كان الهم الأكبر للكثير من الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين لا يطيقون كثيرا معادلات ثورية غير مستقرة وشغلهم الشاغل انصب فقط على شغل مقعد الرئاسة الشاغر في مصر.
كانت هذه الأشهر القليلة التي تلت سقوط مبارك حاسمة في تشكيل انحيازات جماعة الإخوان المسلمين الفاعل الإسلامي الأبرز في مصر والعالمين العربي والإسلامي، حيث تركت الجماعة مقاعد الثورة سريعا للبحث عن مقاعد السلطة منشغلة بالسؤال نفسه "من يخلف مبارك؟"، ورغم أن السياسات الأولية للجماعة قد عبرت عن وعى بتعقد المشهد المصري وتخطيه لمجرد شغل مقعد شاغر في الرئاسة، وهو ما عبرت عنه الجماعة فى قراراتها الأولية فى الإعلان عن عدم الدفع بمرشح رئاسي والترشح على ٢٥٪ فقط من مقاعد البرلمان، إلا أنها تراجعت سريعا في طريق البحث عن مقعد مبارك.
***
أعطت الثورة الإسلاميين عموما والإخوان خصوصا ثلاثة مكاسب انتظرتها الحركة الإسلامية طويلا.
أولا: أعطت الثورة الإخوان شرعية سياسية وقانونية للوجود والحركة والتنظيم، فحصلت الجماعة على شرعية التواجد من خلال إعلانها كجمعية رسمية وإعلان حزب الحرية والعدالة حزبا سياسيا معبرا عن الجماعة، لتعمل الأخيرة مجتمعيا وسياسيا بشكل رسمي بعد عقود من "الحظر" والسرية للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية.
ثانيا: مكنت الثورة الجماعة من العودة للعمل ضمن الجماعة السياسية الوطنية، وهو اللفظ المائع الذي كان ومازال يستخدم ليعبر عن مجموعة الفاعلين السياسيين الرسميين والوطنيين، وهو ما حرمت الجماعة منه طويلا إلى أن حصدته أخيرا تدريجيا بالعمل مع قوى التغيير المجتمعي والسياسي حتي نجحت الثورة في الإطاحة بمبارك والحزب الوطني، وتم اعتبار الجماعة ضمن قوى التغيير قبل أن تدب الخلافات مجددا بين قوى المعارضة الليبرالية واليسارية من ناحية والإسلامية من ناحية أخرى.
ثالثا: وصلت الجماعة لمقاعد الحكم للمرة الأولى من خلال الأكثرية في مجلس الشعب والأغلبية في مجلس الشورى ثم أخيرا بالوصول إلى مقعد رئاسة مصر.
***
أين تقف الجماعة الآن وبعد خمس سنوات من الثورة المصرية ؟
طرأت على الجماعة تغيرات كبيرة للدرجة التي دفعتها إلى مرحلة أكثر سوءًا من المرحلة التي كانت تقف عليها في الثمانينيات وحتى ٢٠٠٥، فضلا عن الفترة من ٢٠٠٥ إلى ٢٠١١ بالطبع.
.أولا: لم يفقد الإخوان السلطة فقط ولكنهم خسروا سريعا الشرعيتين السياسية والقانونية، فتم إعلان الجماعة إرهابية لتتخطى بذلك مرحلة "المحظورة" التي كانت تميزها وقت مبارك، كما تم حل حزب الحرية والعدالة، بل وتعرض معظم قيادات الصف الأول فضلا عن الصفوف الوسطى إلى القتل أو الاعتقال والمنع المستتر أحيانا والصريح في أحايين أخرى من ممارسة السياسة.
ثانيا: لم يفقد الإخوان فقط السلطة، ولكنهم فقدوا مقاعدهم وسط "الجماعة الوطنية" بحيث لم يعد يتم اعتبارهم، حتى بواسطة التيارات غير الإسلامية التي وقفت معترضة على فض رابعة وأصبحت معارضة للنظام السياسي الحالي، كحليف محتمل للعمل الوطني المعارض الآن أو مستقبلا.
ثالثا: فقد الإخوان أيضا مقعد قيادة تيار الإسلام السياسي الذي ظل يميزها لعقود والتي عضدته في الفترة من ٢٠١١ وحتى ٢٠١٣، فبعد انهيار "تحالف دعم الشرعية" خسر الإخوان القدرة على التنسيق أو التحالف، فضلا عن القيادة والزعامة للتيارات الإسلامية الأخرى التي دفعت جميعا ثمن أخطاء الإخوان في الحكم فتعرضت للقمع والمنع والحظر في معظمها، بل أن المثير للدهشة أن حزب النور المؤيد لترتيبات ٣٠ يونيو و٣ يوليو والذي يعد حليفا للسلطة الحالية قد دفع الثمن هو الآخر بخسارة مقعده المميز كثاني أكبر فاعل إسلامي في الفترة من ٢٠١١ و٢٠١٣، حيث تم تحجيمه هو الآخر ورفضه من قبل باقي التيارات السياسية المؤيدة للثلاثين من يونيو، فضلا عن التضييق عليه من قبل السلطة حتى أضحى الحزب لا يمتلك سوى نسبة لا تتعدى ٢٪ من إجمالي مقاعد البرلمان الحالي، لتدفع كل التيارات الإسلامية دون استثناء ثمن فشل الإخوان وإن كان لم يملأ الفراغ الذي تركته الأخيرة أي فاعل إسلامي ولا يبدو أن هذا سيحدث في الأجل القريب.
رابعا: بعد خمس سنوات أيضا انكشف الخواء السياسي والفكري للجماعة، فالشعارات لم تترجم إلي سياسات، المشاريع المعلن عنها لم تكن سوى أوهام، وباستثناءات محدودة للغاية، لم تطرح الجماعة أي كفاءات تذكر سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، أو ثقافيا، فبدت الجماعة خلال الأشهر التي حكمت فيها مصر كجماعة متخمة بالموظفين يقودهم شيوخ خارج تاريخ وجغرافية مصر المعاصرة، وهكذا فقدت الجماعة أهم رهان افتراضي كان يداعب خيال العامة وكان يعطي الجماعة دائما فرصة افتراضية للتواجد المستقبلي ألا وهو افتراض "ما تيجي نجربهم ونديهم فرصة"! الآن ورغم سوء الأوضاع وتعثر السلطة الحالية بوضوح، إلا أن المزاج الشعبي في تقديري لا يميل إلى إعطاء الإخوان هذه الفرصة مرة أخرى.
خامسا: كان الانطباع العام عن جماعة الإخوان حتى وقت قيام الثورة هي أنها جماعة "غير عنيفة"، برجماتية، تلعب سياسة بقواعد السياسة وتتفاهم مع أجهزة الدولة إذا ما تطلب الأمر للحصول على بعض المكاسب السياسية، لديها قدرة على تحمل بعض الضربات المحسوبة خصوصا في عصر مبارك الذي أمم لفترة طويلة العمل النقابي بسبب سيطرة الإسلاميين عموما والإخوان تحديدا. صحيح أن تاريخ الجماعة وعلاقاتها بالعنف مختلف عليه، وهناك مؤشرات بالفعل أنها قد لجأت له في مرحلة تاريخية مبكرة قبل انشاء الجمهورية، لكن التاريخ الحديث كان يشهد تواجدها السياسي والنيابي فضلا عن الدعوي والأهلي السلمي، الآن وبعد ٥ سنوات عادت الجماعة في ذهنية العامة لمربع العنف، بغض النظر عن حقيقة ارتباط الجماعة بأحداث العنف هنا أو هناك، إلا أن قطاع من الشعب أصبح بالفعل مقتنع تمام الاقتناع أنها "جماعة إرهابية"، هذا قطعا قبل أن يشهد العام الأخير اعترافات واضحة من بعض أنصار وقيادات الجماعة بحتمية اللجوء للعنف بل وتأصيل ذلك العنف شرعا، بعد إشارات ضمنية إلى عدم استبعاد الأساليب العنيفة مند يوليو ٢٠١٣.
سادسا وأخيرا وبعد خمس سنوات من الثورة فإن أكبر خسائر الجماعة كانت ذلك التفجير الداخلي الذي حدث للجماعة بعد الضربات المتتالية من قبل أجهزة الدولة التي جيشت كل أدواتها للتخلص من خصمها التقليدي بالضربة القاضية. العام الأخير تحديدا شهد تفكك واضح للجماعة لم يقتصر على الخلاف حول وجهات النظر أو الانقسام حول اللجوء إلى العنف من عدمه، ولكنه وصل إلى خلاف حول "شرعية" الحكم داخل الجماعة نفسها بين فريقين يدعي كل منهما امتلاك تلك الشرعية، وهي نهاية مأساوية لم يكن ليتوقعها أشد المتشائمين حول مصير الجماعة عشية تنحي مبارك قبل خمس سنوات.
***
نتساءل الآن وبعد فوات خمس سنوات من الثورة هل تم إعادة هندسة التاريخ أخيرا وانتهت جماعة الإخوان المسلمين إلى الأبد كما خططت لذلك الدولة بوضوح في يوليو ٢٠١٣ وما تلاها؟ الحقيقة أن كل المؤشرات تقول أن التاريخ لم يتم إعادة هندسته وإنه فقط يعيد نفسه. فالدولة لجأت لنفس أساليب الخمسينات والستينات للتخلص من الخصم الإخواني، ضربات قوية ومتتالية ولكن تعوزها المهارة، وتعوزها القوة الناعمة والأهم تعوزها السياسة! فالدولة لا تجد سوى الأساليب الأمنية، وهي كالعادة أساليب لديها قوة تدميرية مؤقتة ما تلبث أن ينتهي مفعولها بعد فترة، كما أن ضعف الدولة الواضح أمام ظروف سياسية واقتصادية وأمنية غير مستقرة لن يجعلها قادرة على محو الإخوان من التاريخ حتى لو أرادت لذلك وخططت له. نحن أمام مرحلة انتقالية طويلة، سيستمر الإخوان الخسارة والنزيف فيها لفترة معتبرة قادمة، ولكن خواء المشهد من السياسة ومن المهارة ومن الحنكة، فضلا عن ظروف الإقليم والدولة غير المستقرة، وعدم وجود فاعل سياسي إسلامي آخر يملأ فراغ الإخوان الذي ستحتاج الدولة أن تملأه آجلا أو عاجلا، من شأنه أن يساهم في تغيير المعادلات مستقبلا، لا لأوضاع أفضل، ولكن لأوضاع مكررة تاريخيا لتستمر قواعد الجمهورية التي أسسها ناصر لفترة زمنية معتبرة.