هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
بعد أن تناولت قراءة للطريقة التي تغيرت بها الدولة/السلطة وكذلك الإسلاميين، وتحديدا جماعة الإخوان، بعد خمس سنوات من الثورة المصرية، تأتي هذه المقالة الثالثة والأخيرة في هذه السلسة لمناقشة أين وصل الثوار وأين وصلت الثورة بعد المدة ذاتها؟.
قبل أن أبدأ في قراءة المشهد الثوري لابد هنا من الإشارة إلى أن التناول المنفصل للفاعلين الثوريين عن الإسلاميين، لا يعني أن الإسلامين أو الإخوان لم يكونوا جزءًا من الثورة، لأنهم كانوا كذلك بالفعل حتى لو كانوا أخذوا طريقا مختلفا لاحقا والحقيقة أن أطرافا أخرى فعلت أيضًا، ولكن فصل المقال جاء لتبسيط القراءة من ناحية ولمحدودية المساحة من ناحية أخرى.
الحقيقة أن وضع تعريف حصري للثوار أمر صعب، لأننا لو اعتبرنا أن الثورة "قرار" فسنحصرها زمنيا، أما لو اعتبرناها "صفة" فلن نجد ثوارا نتحدث عنهم الآن إلا عددا محدودا يعد على أصابع اليد الواحدة، أما لو اعتبرناها "فعلا" فسوف نوسع حيز الوصف الثوري قطعا، ولكننا سنفقد البوصلة السياسية لمعني الثورة، لأن الفعل الثوري قد يعني الثورة علي الأوضاع القائمة، أو الثورة المضادة لصالح الحفاظ عليها، ولكن حتى نهرب من الجدل النظري، فالمقصود هنا ببساطة كل من آمن بقيم الثورة علي السلطوية ورفع شعارات العيش والحرية والعدالة والكرامة، فعلا وقولا وتحمل في سبيل ذلك دفع أثمان سياسية أو اجتماعية ووظيفية. إذن فالمعنى المقصود هنا يجمع ثوار الميدان أو ثوار المكاتب المغلقة وغرف الاجتماعات، ثوار الحركة وثوار الفكر، ثوار النخب وثوار الشعب.
***
أين ذهب هؤلاء جميعا بعد خمس سنوات من الثورة؟
.تفرقوا! الحقيقة أن التفرق هنا مر بلحظات صعود وهبوط، جاءت فرص قليلة للتجمع علي حد أدنى من الأهداف أو الأجندة السياسية وخصوصا في انتخابات الرئاسة في يونيو ٢٠١٢، ولكنها ذهبت سريعا بلا طائل بل ونحو مزيد من الفرقة بعد أشهر قليلة من حكم الرئيس السابق محمد مرسي، ثم زادت الفرقة في الفترة من يوليو وحتي أغسطس ٢٠١٣ بشكل متسارع، ثم مزيد من الفرقة مرة أخرى مع ترشح الرئيس الحالي وبعد نجاحه، والآن وبعد مرور تسعة عشر شهرا تقريبا علي وصول الرئيس السيسي إلي السلطة فقد زادت الفرقة حتى أصبح هناك فقدان للبوصلة فيمن نعرفه بالثورة أو بالثوار! بالإضافة إلى الإسلاميين، هناك عشرات الفرق والمواقف المعبرة عن اليسار الذي ارتبط بثورة يناير، هناك فقدان ملامح للتيارات الليبرالية أو المدنية/العلمانية التي عبرت عن الثورة يوما ما، وهناك استنزاف للقلة القليلة الباقية من كل هؤلاء.
.لم يتمأسسوا! فعلى الرغم من أن عشرات الأحزاب قد ظهرت في الفترة بين ٢٠١١ و٢٠١٣ للتعبير عن الحراك الثوري، إلا أن الحقيقة أن معظم هذه الأحزاب قد فقدت الكثير من قوتها بعد مرحلة استنزاف قاسية بدأت بعد ٢٠١٣، انهارت خلالها الكثير من الأحزاب وتجمدت أخرى، فيما تبقت قلة ما زالت تسبح ضد الأمواج العاتية ومستقبلها غير واضح حتى الآن! وحتى الأشكال المؤسسية الأكثر مرونة، كالحركات الائتلافية الاجتماعية والثورية، فقد تجمدت هي الأخرى وتم ملاحقة أفرادها أو امتصاصهم أو عزلهم عن الشأن العام بحسابات ومعادلات مختلفة.
.ارتبكوا! فالارتباك كان ولا يزال على مستويات متعددة، الارتباك بين الثورة كقيمة وهدف أو بين الثورة كوسيلة، بين الثورة كفعل "أخلاقي" قاصر على "المخلصين" فالمجد لهم إذن، أم كفعل "مصلحي" من الممكن أن يطال "المنتفعين" أيضا، وبالتالي فالحرية لمن قرر ترك صفوف الثوار!، بين الاستمرار في الثورة، أو الانتقال لمربع الإصلاح أو حتى القفز إلي مقاعد السلطة، أو ربما الانزواء والسكوت وإعادة الحسابات.
.استنزفوا! اليوم به ٢٤ ساعة، والعمر به ما بين ستة إلي سبعة عقود في المتوسط، هناك التزامات ومسئوليات تجاه الأسرة والأولاد بل وتجاه شبكات اجتماعية أخرى مرتبطة بكل شخص، كيف يمكنك الحفاظ إذن على أداء كل هذه الأدوار بنفس الاتقان والجهد والطاقة والتميز والإخلاص؟ وبفرض أنك امتلكت الطاقة لكل ذلك، ألا تتعارض هذه الأدوار أحيانا؟ ألا تضطر أحيانا لدفع ثمن موقف على حساب التزام آخر؟ هل تعيش متمردا وتدفع الثمن، أم تعيش موظفا وتشتري حد أدنى من الاستقرار حتى لو كان الأخير غير مضمون؟ أسئلة صعبة لا أبالغ لو قلت إنه قد مر بها كل ثائر، الإجابات كانت مختلفة، والنتائج أيضا كانت مختلفة.
.نضجوا! أعتقد أن عددا كبيرا من الثوار قد أدرك أمورا كثيرة بشكل أكثر عمقا، معني السلطة، معني الدين، تعقد العلاقات الاجتماعية والوظيفية، ثقافة الناس، مصادر قوة السلطة ومصادر ضعفها، دور الإعلام، الكنيسة، الأزهر وغيرها من المؤسسات الدولاتية، بشكل عام يمكن القول أن الثوار قد خرجوا من مرحلة "فانتازيا" الثورة إلى مرحلة الأسئلة الصعبة والإجابات الأصعب، ومحاولة البحث عن إجابات للأسئلة الصعبة هي في حد ذاتها مرحلة نضج وتحول لازم لتغيير لاحق.
.تحولوا ثقافيا! لعل أكبر مكاسب الثوار حتى أولئك الذين ارتبكوا ومازالوا بين خيارات الإصلاح، السلطة، المعارضة، الثورة والتمرد، هي تلك التحولات الثقافية التي شهدها معظمهم، تحول من المحافظة الاجتماعية، خروج عن قيم وتراتبية وستاتيكية الطبقات الوسطى وما دونها، تحدي كل الخطوط الحمراء، إسقاط اللاشيئيات المقدسة في المجتمع، إعادة قراءة التاريخ وأحداثه، إعادة الاعتبار للفن كوسيلة للتمرد، تحدي سلطة رجال الدين وعلمائه المؤممين بواسطة الدولة، الانفتاح أكثر شرقا وغربا، الخروج للدراسة أو للعمل ولو لفترة مؤقتة خارج البلاد نحو تجارب أكثر ثراءً وحرية، إعادة تعريف موقع العلاقات الخاصة من خريطة علاقات النوع في المجتمع، إعادة فهم العلاقة مع الله، مع المختلفين دينيا وطبقيا وفكريا! سقطت أصنام كثيرة، وهي خطوة لا يستهان بها نحو التغيير، لأنه وبدون التمرد على القوة الناعمة للسلطة، فلن يكون ممكنا بناء بدائل أو صنع معادلات جديدة للسلطة والدولة.
***
إن مجمل هذه التغيرات بحلوها ومرها، بمصادر ضعفها وقوتها، كانت هامة وحتمية لإعادة تشكيل وعي جيل جديد بحسابات مختلفة للمستقبل، لن يكون التغيير سريعا في مصر، ولكن التحولات اللازمة لإحداثه على المستويات الثقافية والاجتماعية تظل ضرورة لازمة لإنتاج التغيير سعيا للوصول إلى جمهورية مصرية جديدة بمعادلات مختلفة للسلطة وعلاقتها بالمجتمع! يمكن تخيل "نجاح الثورة" على أنه "عملية" وليست مجرد "لحظة تاريخية"، تبدأ بالتحولات الثقافية والاجتماعية وصولا إلي التغيرات الاقتصادية والسياسية والتي تنتهي بصنع دولة جديدة بمعادلات سلطوية مختلفة.
لا توجد نتائج مضمونة في السياسة قطعا، لكن توجد محاولات وتحولات جذرية على أي مجتمع أن يمر بها قبل أن يطمع في التغيير، ونحن حقا نمر بهذه التحولات الآن، فهل نطمع في التغيير مستقبلا؟ يظل هذا هو السؤال، وبغض النظر عن الإجابة فسلام على أرواح فارقت أجسادها وذهبت إلى بارئها بعيدا عن عالمنا في سبيل تغير هذا الوطن إلى الأفضل الذي يستحقه، سلام علي شهداء الثورة وشهداء ماسبيرو وشهداء رابعة وشهداء الجيش والشرطة، كلهم بشر، كلهم قضوا نحبهم وهم في ميادين مصر المختلفة دفاعا عن موقف أو أداء لواجب، سلام على ثوار دفعوا ومازالوا حريتهم وراء القضبان، دفاعا عن فكرة أو حلما مشروعا هنا أو هناك، سلام وتحية لكل من يحاول من أجل مصر حتى لو اختلفت بهم السبل.