هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
لأن تحديات الإرهاب تواصل تصاعدها وتحسن الأوضاع الاقتصادية والظروف المعيشية يواصل غيابه، ليس في استطاعة الحكم في مصر أن يستند إلى النجاح في القضاء على الإرهاب وتحقيق الرخاء الاقتصادي كمصدرين لإنتاج شيء من الرضاء المجتمعي ولحمل الناس على تجاهل ممارسات العنف والمظالم والانتهاكات اليومية التي باتت تحيط بالمجال العام من كل جانب. لذا تتوالى محاولات الحكم عبر مؤسسات وأجهزة الدولة التي يسيطر عليها ومن خلال النخب المتحالفة معه صياغة مزاعم بديلة لإقناع الناس إما بعدم التوقف عن تأييده أو الاكتفاء بالعزوف عن الشأن العام والامتناع عن تطوير العزوف إلى معارضة يتبعها بحث عن بديل، وهي في المجمل محاولات تلي ولا تسبق استخدام اليد القمعية وأدوات العنف الرسمي إن لإخضاع المواطن أو لإخافته من عواقب المعارضة.
على صعيد أول، تتسع في الخطاب الرسمي للحكم وفي الخطاب الإعلامي الموالي له دوائر "الأعداء والمتآمرين" الذين يدفع باتجاههم بمسؤولية تعثر جهود مواجهة الإرهاب وتعذر تحسين الظروف المعيشية. في صيف 2013، شكلت جماعة الإخوان المسلمين الدائرة الأساسية "لأعداء الوطن"، وروج من جهة لتورط الإخوان في الإرهاب ولارتباطهم بالمجموعات الإرهابية، ومن جهة أخرى لتآمرهم "لتخريب الاقتصاد الوطني" وتعطيل جهود التنمية. وأعقب دائرة "الإخوان الإرهابيين" الدائرة الأصغر عددا من دعاة حقوق الإنسان والحريات الذين صنفوا أيضا "كأعداء" (الطابور الخامس) وألصقت بهم اتهامات الخيانة والعمالة والتآمر. وأضيف إلى الدائرتين المحليتين دوائر من الأعداء الإقليميين كحركة حماس وحكومة قطر وحكومة تركيا ومن الأعداء الدوليين كالإدارة الأمريكية وبعض الحكومات الأوروبية ومنظمات حقوق الإنسان العالمية، واتهمت الجميع بتمويل ودعم الإرهاب وبتخريب الاقتصاد.
اليوم، بعد مرور عامين ونصف على تعطيل الآليات الديمقراطية في صيف 2013، تتسع دوائر "الأعداء والمتآمرين" المحلية لتشمل قطاعات شعبية كالطلاب والشباب والعمال إن بسبب احتجاجاتهم السلمية المستمرة، أو بسبب رفضهم الرضوخ لأوامر الطاعة والامتثال الصادرة عن الحكم، أو بسبب كسرهم لحاجز الصمت بشأن المظالم والانتهاكات المتتالية من القتل في رابعة إلى الاختفاء القسري. اليوم، وعلى نحو يجنح إلى المأساوية المضحكة، تتسع دوائر "الأعداء الإقليميين والدوليين" لتشمل متآمرين كونيين وقوى شر عالمية يزعم عملها على نشر الإرهاب و"تركيع مصر" وإفشال الدولة الوطنية وتدمير الاقتصاد. اليوم، وفي سياقات يستحيل تجاهل عبثيتها الخالصة، تلصق بالإخوان صنوفا جديدة من الاتهامات تبدأ من إغراق مدينة الإسكندرية بفعل "خلية سد البالوعات" ولا تنتهي عند الوقوف وراء أزمة العملة الأجنبية والتراجع المستمر في قيمة الجنيه المصري إزاء الدولار الأمريكي.
أما مسؤولية الحكم عن تعثر مواجهة الإرهاب بسبب أخطاء كثيرة في السياسات المتبعة، أبرزها الاعتماد الأحادي على الأداة الأمنية للقضاء على الإرهاب والعصف بسيادة القانون وبالحقوق والحريات في سياقها على نحو يجعل بعض البيئات المحلية حاضنة للعنف، فيسكت عنه. ولا تلقى مصيرا مغايرا إخفاقات السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية المطبقة، من إطلاق "مشرعات كبرى" غير مؤكدة العوائد ولم تخضع لحوار مجتمعي حقيقي إلى "وعود الإنجازات القادمة" التي تفتقد لأقل مقومات التقييم الموضوعي وتغيب بشأنها الحقائق والمعلومات.
***
ثانيا، وإلحاقا بدوائر الأعداء والمتآمرين المتسعة بانتظام، تضخ دماء إضافية للكراهية والإقصاء ونزع الإنسانية ليعتاش عليها وحش الاستقطاب المجتمعي ولتطلق تعويلا عليها اليد القمعية للحكم. يخرج رسميون ومسؤولون حكوميون ليطلقوا اتهامات جزافية بشأن هوية المتورطين في أعمال الإرهاب وممارسات العنف، ويشيعوا الروح الانتقامية بين الناس، ويطالبوا بالعقاب الجماعي والفوري للمزعوم تورطهم من أعضاء جماعة الإخوان والمتعاطفين معها وغيرهم. يفعلون ذلك دون اعتبار للتداعيات الكارثية للجزافية والتعميم على نسيج المجتمع الواحد، دون تقدير لخطورة مشاعر الانتقام والتشفي وشررها المتطاير باتجاه المجتمع والدولة ومبادئ سيادة القانون والعدل، دون إدراك لضرورة عمليات تقاضي منضبطة لمنع انهيار ثقة الناس في مرفق العدالة وفي مجمل مؤسسات وأجهزة الدولة.
كخط دفاع مبدئي عن الحكم، يخرج الإعلام العام والخاص الموالي له لينكر حدوث ظلم أو انتهاك للحقوق والحريات ولينفي وجود ضحايا. ثم حين يتعذر الإنكار بسبب توثيق المظالم والانتهاكات من خلال شهادات شخصية لبعض الضحايا وجهود المدافعين عنهم وبعض منظمات حقوق الإنسان المستقلة، يشرع الإعلام في تبرير الظلم بترويج خطاب كراهية لا لبس فيه باتجاه الضحايا وباتجاه رافضي سطوة اليد القمعية وتغول الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وباتجاه عموم المعارضين. تارة تلصق بهم اتهامات العنف والتطرف والتآمر الجزافية، وتارة أخرى تلصق بهم هويات إجرامية كالعمل على هدم الدولة وقلب نظام الحكم ومخالفة "الأخلاق والآداب العامة"، وتارة ثالثة يجردون من كل قيمة وطنية وإنسانية تشويها وتخوينا ثم ترويجا لحتمية معاقبتهم جماعيا.
وفي خطوة الجنون الأخيرة، يصل الخطاب الرسمي للحكم ومعه الإعلام الموالي له بالكراهية والإقصاء ونزع الإنسانية إلى الحدود القصوى، فتوصف المظالم والانتهاكات – بل وجرائم كالقتل خارج القانون والتعذيب والاختفاء القسري – كأعمال تصفية مشروعة. ويحتفى باليد القمعية وبتغول "الأجهزة" كأعمال تأسيسية للحفاظ على الدولة وتماسكها، وللحيلولة دون الانزلاق إلى غياهب الانهيار والتفتت المنتشرة إقليميا. أما مسؤولية القمع والظلم والانتهاكات، منظومة الحكم السلطوي، عن تهديد تماسك الدولة الوطنية فتحال إلى خانات المسكوت عنه، شأنها شأن تداعيات الكراهية ونزع الإنسانية الكارثية على التضامن المجتمعي الذي تخصم منه بقسوة الصراعات الحادة بين من هم مع الحكم ومن هم ضده.
***
ثالثا، يعمد الخطاب الرسمي للحكم ومعه الإعلام الموالي له إلى منع غير الراضين والعازفين بين المواطنات والمواطنين من تطوير موقفهم باتجاه البحث عن بديل. ويفعل الحكم ذلك إما بالدفاع عن دور رأس السلطة التنفيذية، أو بالترويج لانفراد المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية بالقدرات اللازمة لإدارة شؤون البلاد وعجز كل من هم خارجها منفردين ومجتمعين، أو بالاستهزاء بالسياسة وفاعليها أصحاب المصالح الشخصية ومناقشاتها التي أبدا لا تأتي بالخبز إلى موائد طعام الأسر المصرية، ومن ثم حمل الناس على الإقرار بغياب البديل.
في هذا الصدد، يوظف الحكم مجموعة من المقولات الحاضرة دوما في دولاب عمل السلطوية المصرية والتي يسهل استدعائها وعصرنة صياغاتها لكي تناسب اللحظة الراهنة. على سبيل المثال لا الحصر؛ تتردد بكثافة مقولة "الرئيس يعمل، إلا أن بعض المؤسسات والأجهزة تحد من نجاح سياساته الصائبة"، ومقولة "الرئيس ينتصر لهدف العدالة الاجتماعية، وغيره في الدولة لا يعنيه الأمر من قريب أو بعيد"، ومقولة "الرئيس هو المسؤول الوحيد الذي يتبنى قيم يناير ويونيو، أما البقية فيكرهون الحرية التي جاءت بها يناير"، إلى آخر هذه المقولات المراد منها الدفاع عن "سجل وأداء" رأس السلطة التنفيذية.
ثم تتواتر في الخطاب الرسمي للحكم والخطاب الإعلامي الموالي له صياغات تروج لكون المؤسسة العسكرية وبدرجات أقل الأجهزة النظامية الأخرى هي وحدها القادرة على "إنقاذ الوطن" في ظل الظروف الداخلية والإقليمية الصعبة، ويستتبع ذلك إسقاط مفهوم "العجز عن إدارة شؤون البلاد" على المؤسسات المدنية في بنية الدولة المصرية وتعريف أدوارها في سياق الالتحاق بالمؤسسات والأجهزة القوية التي تحمي الوطن والدولة والمجتمع (لا وجود للمواطن في عالم المؤسسات القوية هذا).
أخيرا، تتداول بكثافة مقولات الاستهزاء من السياسة التي توصف "كسفسطة" لا طائل من ورائها، ومن مناقشات السياسة التي تتهم بالعجز عن تقديم الحلول الحقيقية للأزمات الأمنية والمعيشية والاقتصادية والاجتماعية، ومن السياسيين الذين يدعى استسلامهم لغواية المصالح الشخصية وعوائد الدور العام على عكس العسكريين والنظاميين الذين ينزهون عن الغواية والمنافع – وللتدليل تكفي بعض مشاهد من مواسم الانتخابات وبعض مشاهد أخرى من مؤسسات تشريعية مشوهة ومن سجالات إعلامية تغتال العقل.
تباعد مقولات الاستهزاء بالسياسة بين الناس وبين البحث السلمي عن بدائل لحكم لم يحقق، بغض النظر عن طبيعته السلطوية، الكثير من وعود البدايات؛ الأمن والرخاء. وإلى خانات المسكوت عنه تحيل مثل هذه المقولات واقع أن السفسطة المسماة اليوم سياسة ومناقشاتها المتهافتة وفاعليها الأشد تهافتا هي جميعا من صنع الحكم الذي أمات السياسة بمضامينها الحقيقية وأحل سطوة اليد القمعية وتغول الأجهزة الأمنية والاستخباراتية محل حق المواطن في الاختيار الحر بين بدائل رؤى وأفكار وسياسات وسياسيين جادة.