إكرام لمعي يكتب: جناحان لمصر انكسرا لكنها تبقى محلقة ابداً

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
إكرام لمعي يكتب: جناحان لمصر انكسرا لكنها تبقى محلقة ابداً
Credit: Getty Images

هذا المقال بقلم إكرام لمعي،أستاذ مقارنة الأديان، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

مع الخراب الذى يضرب جسد الأمة العربية من ليبيا في أقصى الغرب إلى بغداد ودمشق في الشرق مرورا باليمن في أقصى الجنوب، تنطفئ منارتان كانتا تضيئان في القلب ( مصر ). غالى منارة السياسة والدبلوماسية وجناحها الذي حلقت به في أجواء العالم المضطرب، وهيكل منارة الفكر وعبقرية الأداء الإعلامي والجناح المحلق عالميا في سماوات الصحافة والتحليل. وجاء فراقهما للحياة معا وكأنه احتجاج على ما وصلت إليه هذه الأمة من تدنى في الأداء السياسي، وتشرذم غير مسبوق، وتنكر للمبادئ المعلنة، بتدخل دول عربية بجيوشها في دول عربية شقيقة، وتحريض دول عربية ودول غير عربية للتدخل بجيوشها وأسلحتها لتدمير دول عربية أخرى، وكأن حكام هذه الدول لم تتعلم من التاريخ.

هذا التخبط الشديد الذى جعل مصير الأمة العربية في مهب الريح جعلنا نحزن حزنا مضاعفا على رمزين وطنيين أغرقا في خدمة بلديهما محليا فوصلا إلى العالمية بجدارة لم يسبقهما فيها أحد في مجالهما؛ وإن كان قد سبقهما نجيب محفوظ في مجال الأدب. ومن الغريب أن هؤلاء الثلاثة اكتسبوا خبراتهم في عصر الاستعمار أي ما قبل ثورة 23 يوليو، وإن كان ظهور هذه الخبرات ولمعانها يحسب لجمال عبد الناصر بالنسبة لهيكل وللسادات بالنسبة لبطرس غالى، إلا أن ما يحسب على أنظمة الثورة أنها استفادت من أولئك الذين تربوا قبل عصرهم، لكن من الواضح أنهم لم يربوا كوادر تصل للعالمية في عصورهم المتواصلة حتى اليوم إلا أولئك الذين هاجروا للخارج بسبب تدهور الدولة تعليميا وسياسيا وثقافيا، أو بسبب الاضطهاد لمواهبهم من رؤسائهم  فوجدوا في الخارج البيئة الحاضنة لهم فتفوقوا لكنهم حسبوا على غير موطنهم الأصلي. أما مصرية محفوظ وغالى وهيكل لا يمكن المزايدة عليها بل إنهم بذور أصيلة نبتت في تربة خصبة فصاروا أشجارا وارفة تفتخر بهم بلدهم وتتباهى على دول العالم قاطبة.

***

ولقد جمع بين هيكل وبطرس العبقرية الإنسانية فكل منهما إنسان عبقرى في مجاله والعبقرية كما نعلم 5%جينات و95 % تكتسب بجهد وعرق وكفاح حقيقي، بألم وسهر وعناد ضد العوائق. ففي الجانب العبقري الإنساني يتساويان وإن اختلفا في مجال العمل، ثم هما مصريان حتى النخاع وهما في ذلك أيضًا متساويان ويمثلان نموذجا عبقريا للمصرية الصميمة؛ فهيكل إنسان مصري عربى مسلم، وبطرس إنسان مصري عربى مسيحى، لكنك لا تستطيع أن تغير موقع أي كلمة تقديما أو تأخيرا في هذا التعريف. فهيكل أولا إنسان ثانيا مصري ثالثا عربى رابعا مسلم، وغالى أولا إنسان ثانيا مصري ثالثا عربى رابعا مسيحى. ولم يأت يوم أحسسنا فيه ونحن نتابعهما أن العربية عند هيكل تقدمت على مصريته أو أن إسلامه تقدم على عربيته أو مصريته، ونفس الشيء عند بطرس لم نشعر أبدا أن مسيحيته تقدمت على عربيته أو عربيته على مصريته.

هذا التناسق مع الذات والوطن كان سمة مميزة وعاملا أساسيا في احترام المصريين والعرب والعالم لهما، ذلك في زمن رأينا فيه كيف يتلاعب سياسيون وأدباء وقضاة متميزون قدموا أنفسهم للمجتمع بأنهم مصريون أولا وعرب ثانيا ومسلمون ثالثا ونالوا تقديراً وشعبية، لكن بعد ثورة 25 يناير رأيناهم في لحظات يقدمون دينهم على مصريتهم لا لشئ إلا لأنه وضح أن التيار الدينى سوف يجتاح مصر ويحكمها، ويقدمون عروبتهم على مصريتهم لمكاسب مادية فها قد تهاوى الجنية المصرى أمام الدينار والدرهم. أما هذان العملاقان لم يكن لإنسان أن يدرك انتماءهم الدينى إلا من إسميهما وكثيرون من الأجانب الذين يتعاملون معهم باسم العائلة هيكل وغالى لم يدركا الفرق بينهما في الديانة وبالطبع هذه النوعية من البشر لا تسأل أحد عن ديانته لسبب بسيط جدا أنهم متحضرون، ويعتبرون هذا السؤال تدخلا في خصوصية الإنسان الفرد.

***

 لقد اختلف هيكل مع غالى سياسيا في أكثر من أمر وكان الموقف الأكثر وضوحا هو الموقف من إتفاقية كامب ديفيد، فقد وقف هيكل ضد هذه الاتفاقية انطلاقا من تكوينه المصرى الخالص والناصري القومى العروبى، وهو لم يعارض المعاهدة بقدر ما كان يرى أنه كان يمكن أن تكون لمصر منافع أكثر ومكتسبات أعظم لو لم يهرول السادات نحو الانتهاء من الاتفاقية بسبب موقف العرب جميعا منها، ولأسباب أخرى شرحها بإستفاضة تعود إلى شخصية السادات وغير ذلك. أما بطرس غالى فقد أيد وساعد على إتمام الاتفاقية بعد استقالة اثنين من أكفأ وزراء الخارجية المصرية اعتراضا على تنازلات السادات، انطلاقا من مصريته الصميمة أيضا، ومن أن رفض العرب لهذه الاتفاقية أضعف موقف السادات وموقف مصر، ومعنى أن تتوقف المفاوضات وتفشل في الوصول إلى حل فنتيجة ذلك انهيار كامل لمصر وشماتة من المتربصين بالسادات وقيام فوضى شعبية وأزمة اقتصادية طاحنة؛ لأن أحد أسباب لجوء السادات لهذه المعاهدة رفض العرب تسديد ما عليهم من تعهدات مادية كثمن الأسلحة وتعويض خسائر الحرب.

ولقد كتب السادات أن فكرة زيارته لإسرائيل راودته أثناء عودته من جولة خليجية عربية طلبا للمعونة بعد مظاهرات الخبز عام 1977 وفيها تعرضت مصر لكارثة حقيقية؛ خاصة وأن مصر حاربت عنهم والانتصار عاد لصالح الجميع لكنهم سخروا منه وماطلوا في تسديد ما وعدوا به قبل وأثناء القتال. وقد حكى بطرس في أكثر من جلسة  كيف أنه كان غير قادر على النوم بسبب الخوف من انهيار المفاوضات  ولقد فعل المستحيل للوصول إلى نتائج مرضية من معاهدة كامب ديفيد. وهكذا نرى أن منطلق هيكل وغالي ينبع من خوفهما المطلق على مصر.

***

أما الأمر الثالث الذى اتفقا فيه فكان التواضع والزهد، فعلى الرغم من أن بطرس غالى هو ابن الأكابر الذى كانت عائلته من الإقطاعيين الذين يمتلكون آلاف الأفدنة وولد وفي فمه ملعقة من ذهب في قصر بالظاهر به مائة غرفة، وتعلم في أرقى المدارس والجامعات ووصل إلى سكرتير عام الأمم المتحدة إلا أنه كان متواضعا دون ابتذال. وأتذكر أنه نزل من طائرة في مطار القاهرة ووقفت في الطابور لختم جواز السفر وفوجئت به في أول الطابور ثم وقف على سير الشنط، صحيح شنطته كانت الأولى حملها وخرج وكان حينئذ وزير دولة للشئون الخارجية ولكنه تجاهل نداء الضباط المرحبين به.

في كتابه "بدر البدور" يقول يوم السبت 4 يناير1997 أقيم استقبال كبير على شرفي... بحضور الرئيس حسني مبارك وزوجته يتحلق حول الرئيس شيخ الأزهر والبطريرك الأنبا شنودة الثالث متلألئاً بالذهب والفضة.... ثم يقول تحت عنوان السبت أول نوفمبر 1997 يستقبلني شيخ الأزهر في منزله وهو أعلى سلطة إسلامية في مصر والرئيس الروحي لإحدى أعرق الجامعات المصرية؛ يسكن شقة متواضعة في الطابق الخامس من مبنى ليس فيه مصعد. أشرع في الصعود مع صديقي علي السمان بصعود درج ضيق إنارته سيئة. أصل منهكاً الى المكان المنشود للحصول على بركة الشيخ، وللاستماع الى مديحه. وأظن أن شيخ الأزهر حينئذ كان الشيخ جاد الحق علي جاد الحق.

أما محمد حسنين هيكل فقد ولد في بيت مصري عادى حصل على شهادة متوسطة وثقف نفسه بنفسه كالعقاد وبعبقريته وذكائه وصل إلى قمة الصحافة المصرية والعالمية، لكن ما وصل إليه من شهرة ومال وثروة لم تأخذ من إنسانيته وتواضعه وبساطته، رفض كل أنماط التكريم ومن أهمها قلادة النيل لذلك لم تقم له جنازة عسكرية. رفض العديد من شهادات الدكتوراه الفخرية التي عرضت عليه من أكبر الجامعات في العالم وطلب أن يصلى عليه في الحسين.

إنسانان مصريان نفخر بهما ونتباهى لا لشهرتهما ولا لعبقريتهما ولا لإنجازاتهما غير المسبوقة فقط بل أيضاً وقبل كل ذلك وبعده بإنسانيتهما.