هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
تقول الدراسات إن إحدى أهم محركات السلوك السياسي هي الثقافة السياسية والتى تتشكل بدورها بناء على مقولات يتم الإلحاح عليها بشدة في منابر ومؤسسات التنشئة السياسية، فتتحول من مجرد كونها "مقولات" إلى "فرضيات" قبل أن تصبح "قناعات" تشكل وعى المواطنين العام وتوجه سلوكهم السياسى.
فى مصر، ترددت مقولات ارتبطت بالشأن العام وتم الإلحاح عليها حتى تحولت إلى مسلمات متحكمة في السلوك السياسي للعديد من المواطنين. أستعرض فيما يلى 12 فرضية سياسية انتهت صلاحياتها على مدار العقود الماضية، القناعات السياسية التالية آمنت ببعضها على الأقل الجماهير والنخب على السواء من مختلف التيارات السياسية والفكرية وقد حان الوقت لتحديها، هذا التحدي هو لمنطقها السياسي وليس لمنطقها الديني إن وجد، لذا لزم التنويه.
• "الإسلام هو الحل": أحد أهم وأبرز فرضيات جماعة الإخوان المسلمين، تلك المقولة التي داعبت خيال العامة وصادرت على الإبداع والبدائل السياسية، قللت من شأن الدين الإسلامي لتنزله من مرتبة الدين إلى مرتبة الأيديولوجيا ومنها إلى مرتبة "برنامج العمل". ربطت مصير الدين، سياسيا، بمصير جماعة دعوية تمارس السياسة. أربكت تفكير المواطن المتدين الباحث عن حل للبطالة أو للسكن أو لأزمة الفساد. حجّمت المستقبل السياسي لغير المسلمين وغازلت منطق الخلافة كبديل عن الدولة القومية. تركت أسئلة كثيرة بلا إجابات. ما علاقة الإسلام بتفاصيل سياسية واقتصادية تختلف من دولة لأخرى ومن نظام سياسي لآخر؟ ماذا عن الدول التي طبقت الشريعة (أو هكذا ادعت) ثم فشلت في إيجاد حلول؟! وصلت الجماعة إلى السلطة وخرجت منها دون أن تقدم أي إجابات.
• "مصر مينفعهاش غير عسكرى": مصر وباستثناء الفترة من ٢٠١٢ حينما تم انتخاب الرئيس السابق محمد مرسى وحتى ٢٠١٤ حين غادر المستشار عدلى منصور السلطة، لم يحكمها إلا رجال المؤسسة العسكرية. منذ ١٩٥٢ وحتى ٢٠١٦، ٦٤ عاما منها ٦٢ عاما حكم فيها مصر عسكريون ولم يتغير شيء. المشاكل تزيد وتتراكم وتبقي المقولة تتردد دون أن يعقلها أحد. هل حان الوقت أن نفهم أن المشكلة ليست في المدنيين ولكنها في النظام؟
• "لن ينصلح حالنا قبل أن نعود إلى الله": تشبه الفرضية الأولى وإن كانت أكثر رحابة. لم تجب تلك الفرضية على عددا كبيرا من الأسئلة منها على سبيل المثال لا الحصر، ما المقصود تحديدا "بالعودة" إلى الله بشكل عملي؟ ثم كيف نضمن أن الجميع سيعود إلى الله؟ وإلى أي إله تعود الدول ذات التعدديات الدينية؟ ولماذا انصلح حال دول كثيرة هي ذات أغلبيات ملحدة وليس لديهم إله كي يعودوا إليه؟ ثم ألم يكن تصور بعض الشعوب عن العودة إلى "الله" سببا في اندلاع الحروب الأهلية والتصفيات العرقية لأن كلا منهم دافع عن "الله" الذي يعتقد فيه، فتصور أنه يقتل الآخر لوجه الله؟ لماذا تَقاتَل الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا الشمالية وقبل ذلك بطول وعرض أوروبا؟ لماذا تقاتل الشيعة والسنة في العراق؟ المارونيين والسنة والشيعة في لبنان؟ هل أصدمك فأقول لك أن عددا كبيرا من قادة هذه الصراعات كانوا علمانيين أو غير متدينين ولكنهم استغلوا مشاعر الناس الدينية لتعزيز مناطق النفوذ والسيطرة؟.
• "شعب يعشق (يستحق) جلاديه": مقولة مبتورة سياسيا وتاريخيا، تحكم على لحظة تاريخية معينة وكأنها دائمة إلى الأبد. كم دولة في العالم حكمها أباطرة لعقود أو سنوات ثم سقطوا في النهاية؟ هل استحق شعب تشيلى بينوشيه؟ هل استحق الألمان هتلر؟ أو الطاليان موسيليني؟ أو اليابانيون هيروهيتو؟ أين اليابان وتشيلي وألمانيا وايطاليا الآن؟ أين ذهب جلادوهم؟ أجب عند هذا السؤال قبل أن تردد هذه المقولة المهزومة تاريخيا والتي لا تدفع الشعوب إلا إلى المزيد من التثبيط والخنوع. الجلاد في عدد كبير من التجارب التاريخية استحق عقاب شعبه وليس العكس.
***
• "الزيت والسكر": أسطورة أخرى من أساطير السياسة في مصر! الناس أقبلت على الانتخابات بعد الثورة لأنها حصلت على زيت الإخوان وسكرهم! حقا؟ ألم يكن نفس هؤلاء الذين حصلوا على الزيت والسكر من ثاروا ضد حكم الإخوان لاحقا وتم التغنى بعبقريتهم وحضارتهم؟ ألم يتم توزيع الزيت والسكر بعد انتهاء حكم الإخوان؟ التعبير العلمي لهذه الفرضية البائسة أن المصلحة الاقتصادية قد تحرك أو توجه السلوك السياسي، وهي مقولة صحيحة لكنها في مصر تحولت إلى مقولة عنصرية ضد فقراء هذا البلد، فإذا كانت مصلحة فقراء مصر هي تأمين احتياجاتهم الرئيسية من الزيت والسكر، فإن مصلحة أغنياء هذا البلد هي الحصول على نظام يوفر لهم ضرائب أقل وتسهيلات استثمارية وعقارية أكثر. زجاجة الزيت التي تغازل صوت الفقير هي نفسها من الناحية العلمية أرض الساحل الشمالي التي تغازل صوت الغنى.
• "عبيد البيادة": وهي المقولة التي وصفت انحياز بعض الناس للمؤسسة العسكرية بعد الثلاثين من يونيو. نسيت هذه الفرضية أن تقول أن هذا كان نفس انحياز بعض من ردد هذه المقولة من قبل. إذا كانت الديموقراطية هي في الحق أن ينحاز الناس لمن يختاروه فلماذا لا يحترموا اختيارات الناس "للبيادة" كما اختاروا غير البيادة سابقا؟، ماذا لو قال الناس لهم "نعم نحن سعداء بالبيادة"؟! ادعت هذه العبارة العنصرية تفوقا أخلاقيا لقائليها وميزت ضد من قرر عدم اختيارهم. استسهلت الوصف بدلا من التحليل. حكمت على خيارات البعض دون أ ن تتفهم دوافع هذه الخيارات.
• "الديكتاتور العادل": لعلها الفرضية الأكثر بؤسا في السياسية المصرية. لا أعلم عدد المرات التي حكم مصر فيها ديكتاتور عادل أو هكذا وصف؟ ماذا كانت النتيجة؟ وما المانع أن يكون عادلا دون أن يكون ديكتاتورا؟ ينتهى الحال في كل مرة باعتقاد الديكتاتور أن ظلمه عدلا إلى أن تقع الواقعة، فهل حان الوقت لإسقاط هذا البؤس؟
• "منح الحرية لجاهل كمنح السكين لمجنون": الأصح أن نقول أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، أن الحرية هي في حد ذاتها حماية من سيطرة المجانيين والجهال في نفس الوقت، أن منع الحرية هو في حد ذاته خنجر في ظهر المجتمع؟ ألم يحن الوقت أن نعترف أن كثير من انحيازات "مثقفي" هذا البلد أعطت بالفعل السكين لمجانيين؟ من الجاهل إذا؟
• "الجائع لا يصوت لأنه يبحث عن رغيف العيش": في الواقع تقول الخبرة العملية والدراسات العلمية أن الجوع في الكثير من الأحيان كان دافعا للتغيير والإصلاح وفرض سيادة الشعب. كان ولا يزال دافعا للتعلم والاجتهاد وعدم الاتكال على الغير. كان ولا يزال دافعا للنزول إلى الشارع والاحتكاك بالواقع بدلا من التخفي وراء تكتلات خرسانية في مدن البوابات النائية وخلق سرديات وهمية عن واقع غير موجود إلا في الفقاعة التي يعيش فيها بعض أصحاب البطن الممتلئ.
• "أزمة مصر أزمة ضمير وأخلاق": لا أعرف أين أو متى كان هذا الضمير وهذه الأخلاق التي يتباكون عليها؟ كيف نحصل عليهما؟ ومن يعرفهما؟ أزمة مصر هي أزمة سلطة، أزمة قوانين ودساتير ومؤسسات وسياسات وانحيازات لا أزمة ضمير وأخلاق.
• "العالم بيتآمر علينا": لا أعرف عن أي عالم نتحدث؟ علاقات مصر الرسمية ممتازة مع ألمانيا! مع إيطاليا! مع روسيا والصين! مع الولايات المتحدة واسرائيل بل وحماس مؤخرا! العالم لم يعد يلتفت لنا! العالم أصلا لا يريد أن نتعرض إلي مؤامرة فننهار لأنه لا يطيق بكل الحسابات المصلحية أن يدفع فاتورة مصر منهارة أو مقسمة. نحن من نتآمر على أنفسنا، فابحثوا عن المؤامرة في الداخل قبل أن تبحثوا عنها في الخارج.
• "العلمانية هي الحل": لا أستطيع أن أحصى عدد العلمانيات التي قتلت شعوبها أو شعوب غيرها، التي منعت الحريات وصادرت على حقوق التنظيم والتعبئة والاعتقاد. ثم عن أي علمانية نتحدث؟ علمانية اليابان أم الصين أم الاتحاد السوفيتي أم ألمانيا أم فرنسا أم الولايات المتحدة؟ وماذا عن تجارب أمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا وأفريقيا وأوروبا الشرقية والتي كان للدين ومؤسساته بعض الحضور البارز؟ بعض العلمانيات انتهت الى ديموقراطيات وحريات، وبعضها انتهى إلى شموليات وانهيارات. إذا، منطقيا، لا توجد علاقة ثابتة بين العلمانية والديموقراطية أو بين العلمانية والسلام أو بين العلمانية والتنمية. الديموقراطية في معظم التجارب الحديثة لدول شبيهة في التكوين الجفرافي والعرقي والسياسي لنا كانت هى الحل الأكيد بغض النظر عن درجة أو مستوى العلمانية التي ارتبطت بها أو واكبتها.
***
مقارنة النظم السياسية وتجارب التحول الحديثة تقول إنه لا يوجد حلول ثابتة أو وصفات سحرية أو دروس ممنهجة للتقدم والتحضر والتنمية. من يريد الاستسهال لن يصل أبدا للطريق. قد يتساءل البعض وماذا بعد؟ أقول أسقطوا هذه القناعات من حساباتكم أولا. بنفس درجة إلحاحكم عليها في الماضي، لحوا على اسقاطها الآن. فقط بعد ذلك يمكن أن نبحث عن البديل.