هذا المقال بقلم إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أن الآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
كنت محاضرا في أحد المؤتمرات العالمية للحوار، والتى كانت عادة تعقد في لبنان حتى عام 1975 حيث اندلعت الحرب الأهلية؛ وكانت حرب بين ميليشيات تابعة لدول فكان هناك ميليشيا يمولها صدام حسين وأخرى معمر القذافي وثالثة قومية ناصرية ورابعة سورية...الخ، وكان لإسرائيل دور واضح في هذه الحرب كما كان للفلسطينيين انتماءات مختلفة تحارب بعضها بعضاً وبالطبع كان لبنان الضحية أولاً وأخيراً. وبعد حرب لبنان كانت هناك فرصة تاريخية أن تفتح مصر أبوابها لهذه الهيئات والمؤتمرات، وبالفعل تقدم الكثير منها لكى يؤسسوا مكاتب لهم بالقاهرة والإسكندرية وكانت ستجلب ملايين أو مليارات الدولارات، لكن للأسف كانت اليد المرتعشة للأمن والخوف المبالغ فيه يؤجل دائما الموافقة رغم أن هذه الهيئات معروفة عالمياً في عالم التنمية التابعة للأمم المتحدة أو الحوار مثل مجلس كنائس الشرق الأوسط.
وهنا تحولت هذه الهيئات إلى قبرص والتي فتحت ذراعيها على اتساعها فقد كانت قبرص بعد تقسيمها إلى قبرص يونانية وأخرى تركية بلدا صغيرا مجهولا لكنها بُنيت وصارت دولة من أغنى دول الاتحاد الأوروبي، وتعدى الجنيه القبرصي الدولار والجنيه الإسترليني في ذلك الوقت رغم أنها لا تملك أي مصادر طبيعية للثروة. وقد حدث ذلك على أنقاض لبنان حيث تحولت 90 % من مقرات الهيئات العالمية إليها وبالتالي انتعش الاقتصاد القبرصي وكان من السهل عقد الاجتماعات بقبرص لأنها الأقرب لبلدان الشرق الأوسط. لكن بعد الربيع العربي حدث انهيار في العراق وسوريا ومصر وتونس واليمن وليبيا، وصارت المنطقة بأكملها تقف على أطراف أصابعها خاصة بعد ظهور داعش.
وقد قامت إحدى الهيئات الاجتماعية العالمية بعقد مؤتمرها في قبرص بعد الربيع العربي مباشرة لكنهم لاحظوا أن الأمن هناك بدا يقلد الأمن ببلدان الشرق الأوسط في توتره وطريقته وتوقعه لاختراق من داعش أو من أي منظمة متطرفة. فلقبرص خبرة سيئة بهذا الشأن؛ فقد قام الفلسطينيون في نهاية السبعينات باختطاف طائرة مصرية فأرسل السادات حينها وحدة عسكرية خاصة بمحاربة الإرهاب إلى قبرص، وقدم بطرس غالي -وزير الدولة للشئون الخارجية- بناء على تعليمات من الرئيس السادات وعد للقبرصيين بأن هذه الوحدة لن تهاجم الطائرة، وعلى هذا الأساس تركهم الجيش والأمن القبرصي ينتشرون في المواقع التي اختاروها بالمطار، ولكن صدر الأمر للوحدة من قياداتها في مصر بمهاجمة الطائرة متجاوزاً وعود الخارجية المصرية، وحدثت مذبحة وكانت فضيحة في نفس الوقت وعلى أرض قبرص أيضاً.
وفي ذات التوقيت تقريباً اغتال الفلسطينيون يوسف السباعي وزير الثقافة حينئذ لأنه رافق السادات في زيارته التاريخية لإسرائيل، وكانت منظمة فتح الفلسطينية والتي أسسها جمال عبد الناصر بعد هزيمة يونيو1967 قد أعلنت أنها ستغتال كل من سافر مع السادات الى إسرائيل ولأجل كل هذا لم يسترح الأمن القبرصي ويلتقط انفاسه إلا بعد مغادرة أعضاء المؤتمر. من هنا جاء التفكير والبحث عن أبعد الأماكن عن الشرق الأوسط غير المستقر ووقع التوافق حول البلدان المفتوحة مثل جزيرة هونج كونج ومملكة تايلاند وسنغافورة ... إلخ.
***
في مثل هذه المؤتمرات تتم زيارات للمساجد والمعابد والكنائس، وهكذا جاءت زيارتنا إلى شيخ جامع بانكوك الذى استقبلنا بوجه بشوش وفي حواره معنا قدم إسلاما حضاريا يحتضن جميع البشر، كنا في يوم أحد، فبدأ حديثه بالقول "اليوم يوم الأحد إجازة في كل تايلاند وندعوه " يوم العائلة " لذلك كان لابد أن أجلس مع عائلتي مثل كل أسبوع، لكن عندما أردتم تحديد موعد معنا اخترنا الأحد لكى آت وعائلتي وأتشرف بمقابلتكم، وقد استأذنت زوجتى – التي حضرت معنا بعض الوقت – أن تأخذني بسيارتها إلى مكان الاجتماع فرحبت" وظهرت زوجته امرأة محتشمة الملابس محجبة ورحبت بنا.
وبدأ الحديث عن موقف الإسلام من الآخر المختلف والعيش المشترك والانفتاح على كل البشر. كان الشيخ يتحدث ببساطة وبطريقة مباشرة ولم تفارق الابتسامة شفتيه أبدا، واستطاع أن يقدم وجها نبيلا إنسانيا معاصرا للإسلام قائلًا "أن هذا هو الإسلام الذى نعرفه ونعيش لأجله". تحدث عن بداياته في مدرسة للكاثوليك وكان ينشد ترنيمة مريم ويضئ الشموع وقال "إن التعامل في هذه المدارس أعطاني قدرة على احترام جميع الطقوس، قالوا لي في المدرسة من الممكن أن تقول ما تشاء وترفض ما تريد". ويقول أيضًا "إنني مازلت أذكر ترنيمة مريم وليس فيها أي كلمة ضد الشريعة الإسلامية، وأنا حتى اليوم أحب السيدة العذراء مريم لأنها أم سيدنا المسيح النبي من أولي العزم".
وعندما حدثوه عن داعش قال هذه ليست من الإسلام في شيء ونحن هنا لا نعرف عنها شيئا ولا نريد أن نعرف، وعندما سألوه عن أقوال الفقهاء العرب الذين رفضوا تكفير داعش قال "الإسلام ليس بالقول والشهادتين ليستا مجرد كلام لكنهما فعل، فإذا قال أحدهم الشهادتين ثم أخذ يقتل الناس بدون ذنب ارتكبوه أو دون أن يكون لهم علاقة لهم بالقضية التي يحارب هو من أجلها؛ فهذه الشهادة لا قيمة لها عند الله لأن الفعل نفى وجودها". وعندما سأله البعض بعد الاجتماع عن رأيه في القيادات والمؤسسات الإسلامية التي ترفض أي نوع من الاجتهاد أو التجديد في الفقه الإسلامي قال "إن هؤلاء يعتصمون بالقديم ويضعونه كأسوار من حولهم لأنهم غير قادرين على التفكير المعاصر أو العصري، ويقفون عاجزين أمام اجتهادات العصر عاجزين عن الدفاع عن أفكارهم التي بليت بفعل الزمن، ويرفضها الشباب الذى تواصل مع شباب من العقائد الأخرى السماوية وغير السماوية وهم بذلك يظنون أنهم يسكتون الاجتهاد والعصرنة لكنهم لا يعلمون أن الاجتهاد والعصرنة سوف يقتحم فكرهم التقليدي عاجلا وليس آجلا وستفتح الأبواب على مصراعيها لكل اجتهاد، والاجتهاد الذى يصلح للعصر ولشبابه سوف يثبت والاجتهاد الذى لا يصلح للزمن القادم سوف يلقي به خارج التاريخ".
***
خرجنا من هذا اللقاء ونحن نضرب كفا على كف ونقول متى يكون فقهاء التلفزيون المصري بهذه القامة، ومتى لا تتناقض تصريحات الرؤساء الدينيين بين الداخل والخارج؛ فهم يتحدثون عن مصر في الخارج على أنها دولة حرية الرأي والاجتهاد بينما هم ذاتهم يقمعون كل اجتهاد في الداخل! متى يناقشون الموقف من الاجتهادات الجديدة والمعاصرة! ومتى يكون المشرع المصري قادرا على فتح كل الأبواب للاجتهاد، وإلغاء القوانين سيئة السمعة سالبة الحرية للمجتهدين الدينيين أو السياسيين أو الاجتماعيين وعلى رأس هذه القوانين التي تعلن أننا دولة متخلفة كقانون ازدراء الأديان والذى لا مثيل له في دول العالم المتقدم والمتوسط!