هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
منذ أيام قليلة، سقط مجددا مواطن مصري ضحية لرصاص أمين شرطة (قتيل الرحاب.)
منذ أيام قليلة، واصلت الأجهزة الأمنية معاملتها غير الإنسانية للمسلوبة حريتهم في سجن العقرب وتعنتها في احترام حقوقهم من الحصول على الدواء إلى الزيارات الدورية من قبل ذويهم.
منذ أيام قليلة، سلبت الأجهزة الأمنية حرية عدد من طلاب الجامعات وعدد من الشباب ودفعت بهم إلى أماكن الاحتجاز إن على خلفية مشاركتهم في تظاهرات سلمية أو في سياقات أخرى.
منذ أيام قليلة، تصاعدت الممارسات القمعية للسلطات المصرية ضد المجتمع المدني حيث زج بالمزيد من المنظمات الحقوقية فيما يسمى إعلاميا قضية التمويل الأجنبي، وتعرضت أعمال وأنشطة المزيد من المنظمات والجمعيات الأهلية لضغوط حكومية.
منذ أيام قليلة، استمرت الاحتجاجات السلمية لحملة الماجستير والدكتوراه الباحثين عن التعيين في الجامعات والمعاهد العلمية، واحتجاجات بعض القطاعات العمالية وبعض موظفي الأجهزة الحكومية بسبب غياب الاستجابة لمطالبهم الاقتصادية المشروعة، واستمر كذلك الفعل الاحتجاجي لنقابة الأطباء الرافض للانتهاكات المتكررة لكرامة وحقوق الأطباء من قبل عناصر تنتمي للأجهزة الأمنية.
***
هذه المظالم منفردة أو مجتمعة، وعلى الرغم من حدوثها في بيئة مجتمعية مصرية تعصف بها الأعداد غير المسبوقة للمسلوبة حريتهم والانتهاكات المتراكمة لحقوق الإنسان والتراجع المؤسف في منظومة العدالة التي ما عادت تمنع حدوث جرائم مروعة كالتعذيب والاختفاء القسري والقتل خارج القانون، لم ترتب حراكا شعبيا مشابها للحراك الذي أحدثه في الأيام القليلة الماضية تأجيج المشاعر الوطنية بشأن مسألة جزيرتي تيران وصنافير ولم تستحوذ على اهتمام مماثل في النقاش العام وفي فاعليات شبكات التواصل الاجتماعي. بل إن سلب حرية عدد من الطلاب والشباب على خلفية مشاركتهم في مظاهرات "جمعة الأرض" سرعان ما تجاهله العديد من القوى الاحتجاجية التي دعت إلى التظاهر وتجاوزته الأحداث المتلاحقة.
وإذا كان من اليسير هنا التذرع بفاعلية تأجيج المشاعر الوطنية في مخاطبة قطاعات شعبية واسعة ودفعها إلى الرفض العلني لسياسات أو قرارات تلصق بها (وبغض النظر عن حضور أو انتفاء الأسس الموضوعية) صفات التخاذل عن الدفاع عن المصالح الوطنية أو اتهامات التنازل عن الحقوق الوطنية في مقابل محدودية فاعلية المطالب المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وسيادة القانون لجهة اكتساب قدر معتبر من الاحتضان الشعبي، فإن الأمر المحبط بوضوح هو عجز القوى الاحتجاجية والشخصيات العامة المنتسبة للفكرة الديمقراطية عن إضفاء شيء من العقلانية على تأجيج المشاعر الوطنية والحراك الشعبي الذي أحدثته.
ففي مسألة "الجزيرتين" كان بإمكان الديمقراطيين الارتكان في معارضتهم للنهج الرسمي إلى الفردية التي اتسمت بها صناعة القرار الذي أفضى إلى توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية والاعتراف بها، وإلى الشفافية الغائبة والتي عنت بالفعل استيقاظ المصريات والمصريين على اعتراف "حكومتهم" بسيادة السعودية على جزيرتي تيران وصنافير دون أن يسبق ذلك تمكين الرأي العام إن من التداول الحر للقواعد الدولية والوثائق القانونية والحقائق التاريخية التي تدلل موضوعيا على "مشروعية" الاعتراف الحكومي أو من إدارة نقاش رشيد حول الأمر برمته. كان بإمكان الديمقراطيين تعليل طغيان الفردية وغياب الشفافية بالإشارة إلى الطبيعة السلطوية للحكم في مصر، ونظرته إلى المصريات والمصريين كجموع يتعين عليها الطاعة والتأييد والاستجابة للرأي الأوحد القادم من علي، واستخفافه بحق المواطن في معرفة خلفيات النهج الرسمي وفي التداول الحر للمعلومات والتفاصيل المتعلقة بالقرارات الرسمية. كان بإمكان الديمقراطيين الابتعاد عن الاندفاع وراء تأجيج المشاعر الوطنية وكيل اتهامات التنازل عن الحقوق الوطنية للحكم، والتركيز على سلطوية الحكم التي تجعل من الفردية والشفافية الغائبة والاستخفاف بالمواطن نواقص دائمة في النهج الرسمي، ومن ثم مخاطبة القطاعات الشعبية الواسعة التي تفاعلت مع مسألة "الجزيرتين" بكون الديمقراطية هي الحل الوحيد للتخلص من تلك النواقص.
***
والأمر الآخر الذي لا يقل إحباطا يتمثل في تجاهل القوى الاحتجاجية والشخصيات العامة المنتسبة للفكرة الديمقراطية لأولوية المزج بين تماهيها مع الحراك الشعبي المستند إلى تأجيج المشاعر الوطنية وبين تبنيها العلني لأجندة الحقوق والحريات التي تفرضها المظالم والانتهاكات المتراكمة في مصر.
كان بإمكان الديمقراطيين الربط بين ما يرونه "حق الوطن"، وبين "الحق الثابت للمواطن" في صون كرامته وحريته وحمايته من الظلم والقمع وجبر الضرر عنه حال الظلم ومحاسبة المتورطين في المظالم. كان بإمكان الديمقراطيين تذكير الناس بالتماثل بين فردية وسرية النهج الرسمي في مسألة "الجزيرتين"، وبين الشفافية الغائبة دوما عن القرارات والسياسات والممارسات الرسمية والتي تحرمنا كمصريات ومصريين من معرفة حقائق أوضاع بلادنا الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. كان بإمكان الديمقراطيين مخاطبة الرأي العام بالتشابه التام بين الاستخفاف بالمواطن وبحقه في معرفة خلفيات وأسس وتفاصيل اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، وبين الاستخفاف بكافة حقوق وحريات المواطن على نحو يجعل من الحبس والمعاملة غير الإنسانية في أماكن الاحتجاز والتعذيب والاختفاء القسري والقتل خارج القانون (كما في حالة المصريين الذين اتهموا بعضوية عصابة خطف الأجانب) ومن التجاوزات الممنهجة للأجهزة الأمنية ومن الاستعلاء على المطالب المشروعة للمحتجين بين صفوف العمال والموظفين والأطباء وغيرهم الحقائق الكبرى للواقع المصري الراهن. كان بإمكان الديمقراطيين مد الخط على استقامته بين فردية وسرية النهج الرسمي وصناعة القرار العام، وبين نزوع الحكم إلى قمع المنظمات الحقوقية المستقلة وإسكات الأصوات المستقلة عبر "إعلام الأذرع الأمنية" وصولا إلى "لا تستمعوا لغيري" و "لا تتحدثوا في هذا الأمر بعد الآن" وغيرهما من الأقوال الرسمية.
كان بإمكان الديمقراطيين إضفاء شيء من العقلانية على تأجيج المشاعر الوطنية وعلى توظيفها للتعبير العلني عن رفض النهج الرسمي المتسم بالفردية والسرية، والامتناع في سياق تفاعلهم مع الحراك الشعبي الراهن عن تجاهل أجندة الحقوق والحريات، عن تجاهل حق المواطن.