إبراهيم عوض يكتب: الحكم في مصر يصنع الأزمات وينزلها بنفسه

الشرق الأوسط
نشر
10 دقائق قراءة
تقرير ابراهيم عوض
إبراهيم عوض يكتب: الحكم في مصر يصنع الأزمات وينزلها بنفسه
متظاهر مصري في القاهرة يحتج على إعلان جزيرتي تيران وصنافير بأنهما تابعتان للسعوديةCredit: MOHAMED EL-SHAHED/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم إبراهيم عوض، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

أزمة الاتفاق على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية هي من صنع الحكم. أريق حبر كثير بشأن ما إذا كانت الجزيرتان مصريتين أو سعوديتين، وكذلك بشأن الأسلوب المتبع في مفاجأة المواطنين بأن الاتفاق قد وقع بالفعل وبأنه لا مجال للحديث فيه أو لأن يناقشه المواطنون مع أن هذا أمر يتعلق بممارسة السيادة أي أن هذه المناقشة حق لا منازعة فيه سواء ذكر الدستور ذلك صراحة أو لم يذكر. غير أنه من أخطر ما في هذا الاتفاق أنه قد صنع أزمة ستتحوّل إلى مشكلة مزمنة، قبِل الحكم أن يناقشها المواطنون في الوقت الحالي أو لم يقبل. الحكم، أي حكم، زائل، ولكن ضمير الجماعة الوطنية هو الباقي. الاتفاقات لا تبرم ثم تصبح جمادًا متواريًا منسيًا. حتّى وإن وافق البرلمان على التصديق على الاتفاق فإن ذلك لن يعني أن الجماعة الوطنية ستنساه أو تَكُف عن التذكير به وهو ما من شأنه تنغيص العلاقات المصرية السعودية إلى فترة طويلة في المستقبل، وما أغنى البلدان والمنطقة العربية عن ذلك. في سنة 1936، وَقّع الزعيم مصطفى النحاس الاتفاقية التي أُلغيت بمقتضاها التحفظات الأربعة الواردة في تصريح 28 فبراير سنة 1922، واكتملت بها نظريًا سيادة المملكة المصرية. الأغلبية الساحقة في الجماعة الوطنية قَبِلت الاتفاقية، بالرغم مما كان فيها من نواقص، ولكنها عندما تأكدت من سوء نيّة بريطانيا في تنفيذها، طالبت نفس الزعيم، وحتّى في ظل نفس نظام الحكم، بإلغائها، فألغاها.

 اتفاق تيران وصنافير ليس حائزًا على نفس قبول اتفاقية سنة 1936، فهل ستغُض الجماعة الوطنية الطرف عنه وتنساه؟ ليس ضربًا من الخيال القول بأن الجماعة الوطنية ستستمر في تذكير كل صيغة للحكم، حالية وقادمة، في مصر بالاتفاق. هذه الأزمة كان يمكن تفاديها بسهولة. إن كانت المملكة العربية السعودية قد طالبت بالجزيرتين مؤخرًا فإنه كان يجب إطلاع الشعب فورًا على هذا الطلب وكان على الحكم أن يتبنى الحجج التي يقدمها الشعب ثم يحال الأمر برمته إلى التحكيم، فإن صدر قرار التحكيم في صالح مصر تتأكد سيادة الشعب على الجزيرتين، وإن كان في صالح السعودية، فعندها كان الكثيرون من معارضي الاتفاق سيقفون مع الحكم ومع أي دعوة له لاحترام حكم القانون الدولي حفاظًا على العلاقات العربية التي لابدّ أن تكون أخوية. هذه هي المقاربة السياسية لمثل مسألة الجزيرتين. إلغاء السياسة وازدراؤها نتيجته الأزمات. والحق أن المراقب يتساءل كيف أن المملكة العربية السعودية نفسها لم تدع إلى هذه المقاربة السياسية التي توفِّر عليها الأزمات وتؤكد حقها في الجزيرتين، بدون منازعة مستمرّة، إن انعقد لها هذا الحق.

الاتفاق بشأن الجزيرتين تسبب في إشاعة مناخ أزمة ثم أنشأ لنفسه أزمة أخرى، هذه المرّة مع الجماعة الصحفية والصحفيين. الاحتجاجات والمظاهرات قابلت الاتفاق فانتشرت قوات الأمن في العاصمة مشيعة مناخًا مضاعفًا بالأزمة. تفرّقت أغلبية المتظاهرين وقُبض على بعضهم واعتصم صحفيان اثنان بنقابة الصحفيين بحثًا عن حمايتها. حرية التظاهر حق للمواطنين وأي حظر فعلي له بدعوى تنظيمه باطل بمقتضى قواعد كل من القانون الوطني، الدستوري، والقانون الدولي. ثم إن أي حظر لا يمكن أن يكون انتقائيًا، يطبق على البعض ولا يطبق على آخرين، لا يريد الحكم أو لا يجرؤ على حظر تظاهرهم. الحظر الفعلي للتظاهر الذي فرضته الدولة بقانون باطل أنشأ أزمة بينها وبين المجتمعين المدني والسياسي ممتدة منذ صدور هذا القانون.

***

لم يكف الحكم هذه الأزمة بل زاد إلى حصيلته أزمة جديدة، دائرة المتأثرين بها والمتضامنين معهم والمستنكرين لها هائلة الاتساع، إذ اقتحم ممثلوه نقابة الصحفيين وألقوا القبض على الصحفيين المعتصمين بها. قبل الخوض في المسئولية عن هذا الاقتحام من المهم الإشارة إلى أن أساليب الأمن في انتشار أفراده متخفيين بملابس مدنية والاندساس بين المتظاهرين والإيقاع بهم هي ممارسات غير قانونية فضلًا عن أنها غير نزيهة ولا تليق بالدولة ولا بالحكم لأنها فيها خديعة للمواطنين المفترض أن من واجب الدولة حمايتهم. الأصل أن اللباس المميز لممثلي الدولة هو لكي يطمئن المواطنون إليهم وإلى أنهم يحمونهم.

أما عن المسئولية عن الاقتحام، فإن أجهزة الأمن الممثلة للحكم تزعم أنها كانت تمتثل للقانون إذ أنها كانت تنفذ أمراً صادراً عن النيابة بالقبض على الصحفيين المذكورين. حقيقة الأمر أنه سواء كانت المبادرة صادرة عن الأمن أو عن النيابة فإن كليهما محسوبان على الحكم. البعض بدأ يقول أن الأمن نقل النزال من مواجهة بينه وبين الصحفيين إلى مواجهة بين النيابة والصحفيين. هذا بدوره يثير تساؤلًا آخر، ثار مثيله حتى في دول ديمقراطية، وهو عن علاقة النيابة بالسلطة التنفيذية وحقيقة استقلالها الفعلي عنها. صحيح أن القانون المصري ينصّ على استقلال النائب العام وعدم جواز عزله، ولكن تعديل قانون الهيئات المستقلة الذي سمح بعزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، وهو المفترض فيه هو الآخر أنه غير قابل للعزل، مازال حاضرًا في الأذهان. عزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات بدوره كان قد أشعل أزمة.  

***

  الأزمة الاقتصادية الممتدة هي أيضًا في جانب كبير منها من صنع الحكم أو نتيجة لممارسات درج عليها. الحكم مُصِرّ على إخافة الناس بحديث المؤامرة الخارجية والداخلية المفتعل وما يترتب عليه من أساليب يعتمدها الأمن مع المواطنين في الشارع تعوق عليهم هذا وتمنعهم من ذاك، تعمِّق من شعورهم بعدم الاطمئنان وبأنهم يعيشون أوقات غير عادية. والحكم يشعر الناس بأنهم يعيشون حالة تهديد استثنائية تستدعي إجراءات على شاكلتها، استثنائية، من نوع حظر النشر عن التحقيقات في الغالبية العظمى من القضايا التي تهم مجموع المواطنين. في أي مجتمع يعيش حياة عادية، هل يحظر النشر بالشكل الذي تكرر في مصر في السنوات الأخيرة؟ أي استثمار وأي سياحة يمكن أن يُقبلا على مجتمع متوتر تقول سلطة الحكم فيه ليلًا ونهارًا أنه مهدد تهديدًا وجوديًا؟.

 والأزمة الاقتصادية ترجع أيضًا إلى انهيار السياحة وهو بدوره يعود إلى تقصير في إجراءات تأمين السياح ومعهم، إن لم يكن قبلهم، إجراءات تأمين المصريين. من يقارن الإجراءات الحالية في المطارات بالإجراءات الشكلية التي كانت موجودة حتى ستة شهور مضت يدرك أن السلطات نفسها معترفة بالتقصير الذي كان موجودًا من قبل. والأزمة الاقتصادية ترجع كذلك إلى قرارات تعسفية في تخصيص الموارد الشحيحة للنقد الأجنبي، من قرار حفر الفرع الموازي والجزئي لقناة السويس إلى بناء "العاصمة الإدارية الجديدة" مرورًا بقرارات بالشروع في تنفيذ مشروعات كبرى لم تدرس جدواها ولا أولوياتها.

المعارضون للحكم، مثلهم مثل المؤيدين له، يدركون أن الناس تعبت من عدم الاستقرار وأنهم يريدون الاطمئنان إلى حاضرهم، من جانب، وإلى أن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم سيكون أفضل من يومهم، من جانب آخر. هم حريصون على هياكل الحكم وعلى الحفاظ عليها،  وعلى تجنب المجهول. غير أن حرصهم هذا ليس كافيًا لعدم السقوط ولا هو كفيل به.

***

الحكم ماض في نهجه واثق في نفسه وفي فهمه المبسّط لسياسة الناس. إن كانت ثمة عقبات أو مشكلات فهي ترجع إلى أفعال الآخرين وأقوالهم. لذلك فلابدّ من التضييق، ثم مزيدًا من التضييق، ومن بعده تضييق إضافي، على تحرك الناس وعلى  تعبيراتهم. هذا النهج هو معاندة لمن يعنيهم الحفاظ على الحكم وعلى هياكله، وهو المنحدر الذي يمكن أن يهوى بالجميع إلى المجهول السحيق.

الاحتجاج بالإرهاب لا يؤتي أثرًا. الإرهاب طليق ونهج التضييق لم يردعه عن جرائمه.

وخصومة المعارضين لنهج التضييق، خصومتهم للإرهاب لا تقل عن خصومة الحكم له.

الحفاظ على هياكل الحكم وتفادي الهوة السحيقة يتطلبان التوقف الفوري عن صناعة الأزمات وهو ما لن يتأتى إلا بإعادة الاعتبار للسياسة وبفتح المجال العام وباحترام الشعب والتنظيمات المعبرة عن مواقفه ومصالحه المتعددة.

صيانة البلاد وبناء المستقبل ممكنان فقط بالثقة في أن التفاعل الحُرّ بين مكونات الشعب هو الذي تنتج عنه أفضل صيغ للحكم.