مصطفى كامل السيد يكتب عن إدارة الخلافات في مصر

الشرق الأوسط
نشر
11 دقيقة قراءة
مصطفى كامل السيد يكتب عن إدارة الخلافات في مصر
Credit: MOHAMED EL-SHAHED/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

في ختام العام الجامعي يلح علي دوما تساؤل عن جدوى ما أقوم به من عمل في تدريس العلوم السياسية للطلبة في جامعتي القاهرة والجامعة الأمريكية بالقاهرة، هل يفيدهم علم السياسة في فهم ما يجري من أحداث في العالم؟ وهل يطرح عليهم مخرجا من الأزمات التي تعصف بعالمنا العربي وببعض الأقاليم خارجه؟ ليس من المهم أن يكون من الصعب الأخذ بهذه المخارج في التو والحال، فلا يمكن توقع ذلك في قضايا معقدة وشائكة، ولكن هل تتضمن نظريات وإجتهادات من قضوا حياتهم يتأملون واقع علاقات القوة بين البشر إشارات لما يمكن معه إقامة هذه العلاقات على نحو أكثر رشدا؟ طرحت هذا السؤال علي بعض طلبتي، وكانوا كرماء معي فقد أجابوا عليه بالإيجاب، وسرتني الإجابة، ولم أشأ أن أطلب منهم مزيدا من التوضيح، فلم يكن ذلك موضوع المحاضرة، ولكن إستغرقني بعدها التفكير في تلك الإجابة، وقررت أن أعرض بعض ما إنتهيت إليه على قراء هذه الصحيفة لعلهم يشاركونني الرأي في حكمة إسترشاد أوضاعنا السياسية بما إنتهى إليه دارسو علم السياسة. وسأشرح في هذا المقال خلاصة عدد من إجتهاداتهم. وأقربها إلى إهتماماتنا في الوقت الحاضر، ولذلك فسوف أقتصر على ما يقوله علم السياسة بشأن كيفية التعامل مع الاختلافات السياسية، وقواعد الحكم الرشيد، وأسس شرعية النظام السياسي.

***

كيفية التعامل مع الاختلافات السياسية

يُسلِّم علم السياسة بأن التنوع في المصالح والقيم والاتجاهات هو سمة أساسية للطبيعة الإنسانية، ومن ثم فمما يخالف الطبيعة الإنسانية أن يتوقع من يملكون زمام الأمور في أى دولة أن تتوقف هذه الاختلافات بين المواطنين، أو أن يكون لهم رأي واحد في أي قضية. بل ويشهد تاريخ النظم السياسية والاجتماعية المعاصر أن تلك النظم التي سعت للتغطية على هذه الاختلافات أو إنكارها بدعوى أنها  تفت في عضد الوحدة الوطنية أو حاولت وضع حدود لهذه الاختلافات على أن بعضها مشروع في إطار الأسرة الواحدة، وبعضها الآخر غير مسموح به لأنها خلافات عدائية، مثل هذه النظم سقطت، لم تُعمِّر أكثر من عقدين في حالة النظم الفاشية والنازية في ألمانيا وإيطاليا، وأقل من ثمان عقود في حالة النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، وعلى العكس من ذلك فإن النظم الليبرالية التي عرفتها دول غرب أوروبا والولايات المتحدة قد استمرت على الرغم من كل الأزمات الحادة التي واجهتها إلى حد دعا مفكرا أمريكيا هو فرانسيس فوكوياما إلى الإدعاء بأنه بسقوط كل النظم المعادية لليبرالية تأكد ليس فقط الانتصار الحاسم لليبرالية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بالقول بأنه مع إختفاء هذه النظم إنتهى التاريخ، ولم يعد للإنسانية مستقبل إلا في ظل الليبرالية. طبعا هناك كثيرون اختلفوا مع فوكوياما في توقعه بانتهاء التاريخ مع عدم احتمال أن تكون هناك صراعات أخرى تعرفها الإنسانية سواء مع الليبرالية أو حول قضايا محورية أخرى، ولكن مثل هذه الإعتراضات لا تنكر صحة الإستنتاج بأن النظم الليبرالية أكثر صمودا أمام أزماتها بالمقارنة بالنظم غير الليبرالية. فما هو السبب في ذلك؟

السبب في ذلك أن هذه النظم أكثر واقعية في النظر إلى التنوع الأساسي بين البشر وما يترتب عليه من إختلافات في المصالح والقيم والاتجاهات. هى تعترف بهذه الاختلافات وتسمح بالتعبير الفردي والجماعي عنها، وبالتنظيم المهني والسياسي على أساسها. هناك خلافات في المصالح بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال، وبين المستهلكين والمنتجين، وهناك خلافات في القيم بين المتدينين والعلمانيين، وبين أنصار البيئة وبين من يحبون ألا تقف أي ضوابط أمام حمى الاستهلاك أو الإنتاج. فليعبر كل هؤلاء عن رؤاهم الخاصة ويترك الأمر للمواطنين الذين يختارون من يعتبرونه أصلح للحكم لفترة محدودة يعود بعدها للمواطنين من جديد يجددون تفويضه للحكم من جديد، أو يضعون فريقا آخر محله وذلك من خلال إنتخابات حرة ونزيهة ومفتوحة للجميع، أما إذا دار الخلاف علي قضايا أضيق نطاقا فهي تُحسم من خلال المفاوضات الجماعية، مثل تلك التي تدور بين نقابات العمال واتحادات أصحاب العمل وبرعاية الدولة. في مثل هذا التفاعل السياسي في المجال العام من خلال الإعلام والمؤسسات النيابية ومنظمات المجتمع المدني يندر أن يتمكن طرف من فرض إرادته المطلقة، وينتهي الأمر ليس فقط بحلول وسط، بل قد يجد طرف الحكمة فيما يطرحه طرف آخر، ويتبني موقفه متجاهلا أن ذلك ما كان يدعو إليه الطرف الذي يختلف معه. ولذلك نجد إستمرارا لجوهر السياسات على الرغم من إنتقال السلطة من أحزاب اليمين إلى أحزاب اليسار في فرنسا، ومن حزب العمال إلى حزب المحافظين في بريطانيا، ومن الحزب الجمهوري إلى الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة. نزاهة الإنتخابات وحريتها ويقظة الرأي العام من خلال إعلام منفتح على كافة وجهات النظر هي التي تؤدي إلى سقوط أصحاب السياسات الفاشلة وقدوم أصحاب الأفكار الجديدة إلى السلطة على نحو يسمح بالتكيف مع أوضاع جديدة، ويقبل الخصوم صحة هذه الأفكار الجديدة، فواصل حزب المحافظين في بريطانيا سياسات الرفاهة الإجتماعية التي تشمل تقديم خدمات التعليم والصحة والإسكان مجانا وتوفير إعانات البطالة وهى السياسات التى كان حزب العمال قد أدخلها بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك بثلاث عقود إنتهج حزب المحافظين سياسة خصخصة القطاع العام وتبعه في ذلك حزب العمال بزعامة توني بلير بعد وصوله إلى السلطة في سنة 1993. هكذا تكيفت هذه النظم مع أوضاعها المتغيرة بفضل إعترافها بمشروعية الاختلافات بين البشر وأقامت هياكل وأساليب للتعامل مع هذه الاختلافات على نحو سلمي. ولذلك أصبحت أكثر إستقرارا ودواما من تلك النظم السلطوية التى إعتبرت أن الاختلافات السياسية ضارة بالوحدة الوطنية أو بمصالح الطبقة العاملة، ومن ثم وارتها شعوبها التراب بعد عقود لم تطل كثيرا في حساب التاريخ.

الحكم الرشيد

مفهوم آخر تطرحه العلوم السياسية كشرط لنجاح التنمية، وهو إلتزام النظام السياسي بعدد من القواعد تكفُل رشادته، أي نجاحه في الوصول إلى غاياته بأقل تكلفة ممكنة. من أهم هذه القواعد الإلتزام بحكم القانون، ورشادة عملية صنع القرار، والإفساح للشفافية فيما يضعه وينفذه من سياسات، وتوسيع نطاق مشاركة المواطنين في صنع السياسات العامة ومراقبة تنفيذها على المستويات الوطنية والمحلية، ومساءلة من بيدهم السلطة عما يقومون به، وإمتلاك رؤية إستراتيجية، والتوازن بين أعباء السياسات العامة والفوائد التي يحصل عليها المواطنون من هذه السياسات، وضرورة السعي لتحقيق التوافق حول السياسات العامة. كل هذه الشروط أساسية حتي يمكن وصف نظام الحكم في أى دولة بأنه حكم رشيد. وكل هذه القواعد تدق نواقيس خطر لدينا لبُعدنا عنها، وسوف أركز على بعض هذه القواعد بقصد التوضيح وأترك للقارئة والقاريْ أن يحدد مدى إنطباق هذه القواعد على أوضاعنا في مصر. فمثلا من بين  هذه القواعد حكم القانون، والمقصود به هو إتباع القواعد الموضوعية التى تصدر للتعامل مع قضايا عامة وليس لتحقيق مصالح محددة لبعض الأفراد أو الجماعات أو مؤسسات الدولة. فليس كل ما يسمى قانونا يندرج في المعنى المقصود بحكم القانون. ورشادة عملية صنع القرار تقضي بألا يصدر قرار هام دون أن تكون هناك دراسات سابقة لموضوعه تبين المشكلة التي تدعو إلى إتخاذ قرار بشأنها، والبدائل المختلفة للتعامل مع هذه المشكلة، والنفقة الناجمة عن إتباع كل بديل، والفوائد المترتبة عليه، ومناقشة كل هذه البدائل بين المختصين وأصحاب الخبرة ومشاركة الرأي العام في هذه المناقشات، والأخذ بالقرار الذى يحقق أكبر منفعة وينطوى علي أقل نفقة، وإمكانية تعديل هذا القرار عندما تتغير الظروف الأساسية التي أدت إلى إتخاذه أو عند ظهور معلومات جديدة تغير من المعطيات التي إنبنى عليها القرار في السابق. والقاعدة الأخرى المهمة هي ضرورة إمتلاك الحكومة على كل مستوياتها رؤية إستراتيجية تبين الغايات الكبرى التي تسعى إليها في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الداخلية والخارجية، على ألا تكون هذه الإستراتيجية مجرد وثيقة يجري الإعلان عنها في مؤتمر صحفي ثم توضع في الأدراج بعد ذلك، ولكنها تترجم إلى سياسات وخطط عمل يجرى تنفيذها ومتابعتها وإعلام الرأي العام بما جرى في شأنها ومساءلة من يقع عليهم واجب تنفيذها، ومكافأتهم إن نجحوا، وعقابهم إن فشلوا لأسباب ضمن حدود إختصاصاتهم.

الشرعية

وأختم هنا بمفهوم الشرعية، وهو من أدق المفاهيم في العلوم السياسية ومن الأصعب في قياسها. يفترض أن الأخذ بالأساليب الصحيحة في التعامل مع الاختلافات وفي إتباع قواعد الحكم الرشيد يقضي إلى توفير الشرعية لنظام الحكم، ولكن في أوضاع إستثنائية قد يتلمس  نظام الحكم شرعيته في الإدعاء بأنه يتوافق مع تقاليد المجتمع مثلما هو الحال في دول الخليج على ضفتيه، أو إستنادا إلى شعبية القائد والمؤسسات السياسية المستندة إلى الإنجاز في ظروف صعبة وحشد قدرات المواطنين بتذكيرهم بأمجاد ماضية، ولكن مما لاشك فيه أن الأساس الدائم لشرعية أي نظام سياسي هو مدى إلتزامه بالقواعد الموضوعية في الدستور والقانون.

***

هل ترون أعزائي القارئات والقراء أن في العلوم السياسية ما يفيد في فهم أوضاعنا الراهنة؟ أتمنى أن يكون ردكم بالإيجاب حتى أشعر بجدوى ما أقوم به من عمل.