هذا المقال بقلم شمس الدين النقاز، والآراء الواردة أدناه تعكس وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
بغداد من جديد، تفجيرات انتحاريّة تحصد مئات القتلى والجرحى، وتقلب الهدوء النسبيّ الذي شهدته العاصمة خلال الأسابيع الأخيرة جحيما وحمما وشظايا وأنهارا من الدماء المليئة بالأشلاء.
هجمات بغداد الأخيرة كانت الأكبر في تاريخ عراق حيدر العبادي، كما كانت الأكثر فتكا بالحشد الشعبي منذ تشكيله وفق ما ذكرت تقارير إعلاميّة، بل إنّ تفجيرات بغداد حيّرت المتابعين والنقاد عربا وعجما، حتّى أنّ التقارير الإعلامية الغربيّة الّتي
تناولت الموضوع من جانب تحليلي لم تحسم أمرها إلى حدّ الآن، هل كانت الهجمات الأخيرة نقطة قوّة لتنظيم الدولة الإسلاميّة أم مؤشّرا على نهايته مثلما ذهب إلى ذلك عديد الكتاب والخبراء.
طوال الأشهر الأخيرة، لم تهدأ العاصمة العراقيّة بغداد، فبعد المظاهرات التي نظّمها أنصار التيار الصدري والتي انتهت باقتحام الساحة الخضراء، جاءت التفجيرات المتزامنة لتزيد من أوجاع العراقيين وتعيد موضوع تأمين العاصمة من الهجمات الإرهابيّة من عدمه، كما أعادت إلى الأذهان حكاية تحرير مدينة الموصل العراقيّة التي طالت أكثر من اللازم، بل إنّها ستطول أكثر فأكثر، خاصّة بعد أن قامت وزارة الدفاع العراقية بنقل جزء من قطعاتها في جبهات القتال إلى بغداد، لحمايتها من هجمات "الدولة الإسلامية".
نقل وزارة الدفاع العراقية لجزء من قطعاتها العسكريّة من جبهات القتال مع تنظيم الدولة يعيد للأذهان خرافة "تأمين بغداد" الّتي يتبجّح بها المسؤولون الأمنيون العراقيون منذ سنوات، فبغداد التي لا يدخلها النازح من مناطق الصراع إلّا بكفيل، استباحها مقاتلو تنظيم الدولة في أكثر من مناسبة وبطرق متنوّعة، بل إنّ جدران الإسمنت وحظر التجوال، وانتشار النقاط الأمنية، وغيرها من المعالجات الّتي دأبت الحكومة العراقية على اللجوء إليها عقب كل موجة من التفجيرات التي تضرب العاصمة لم تعد مقنعة وناجعة بالنسبة لسكانها.
تصريحات الخبراء الأمريكيين لتحليل تداعيات التفجيرات تضاربت، فبينما يرى بريت ماكجورك، المبعوث الشخصي للرئيس باراك أوباما، أنّ الهجمات تؤكد أن تنظيم الدولة الإسلاميّة يخسر وأنه في حالة دفاع، خاصة بعد أن فقد مساحات واسعة من أراضيه بفعل الهجمات البرية للقوات العراقية المدعومة من طائرات التحالف الدولي، يصرّح الجنرال المتقاعد، مارك هيرتلينغ، محلل الشؤون العسكرية بشبكة CNN، بأنّه لا يعتقد أن العمليات والتفجيرات الأخيرة التي يقوم بها تنظيم الدولة نابعة من كونه في وضع يائس، وإنّما هي محاولة لسحب قوات الأمن العراقي إلى بغداد لفكّ الحصار على الموصل وإعادة خلط الأوراق، واصفاُ هذه الخطوة بالذكية لتنظيم الدولة.
الأمر لم يتوقّف عند هذا الحدّ، فعلى إثر الهجمات الأخيرة، أكّد هيرتلينغ، أنّ سياسة المرحلة الراهنة التي ينتهجها التنظيم ليست عشوائيّة وإنّما انتقائيّة مدروسة، لها أهدافها التخريبيّة بالأساس، فاستهداف منشأة غاز البروبان في منطقة التاجي كان يهدف لتضييق الخناق على الحكومية العراقيّة وإظهارها في ثوب العاجزة على تحقيق أبسط مقوّمات العيش اليومي للعراقيين، فغاز البروبان هو الذي يستخدمه أغلب العراقيون للطهي.
من المؤكّد أنّ هجمات بغداد التي خلّفت قرابة 200 قتيل ومئات
الجرحى، ستكون محور نقاش طويل على طاولة رئيس الوزراء حيدر العبادي،
كما أنّ التحالف الدولي الّذي سيحتفل بعد أشهر قليلة بعامه الثاني من
انطلاق عمليّاته العسكريّة الجويّة ضدّ تنظيم الدولة، سيعيد مراجعة
خططه الحربيّة واستراتيجياته الّتي ينتهجها، فلا الدولة الإسلاميّة
"تبدّدت" ولا هي في الأشهر الأخيرة "تمدّدت" وإنّما كلّ ما في الأمر
أنّها غيّرت خططها العسكريّة وأولويّاتها تماشيا مع متطلّبات
المرحلة.
تداعيات العمليّات الأخيرة تواصلت وطالت البيت الشيعي في العراق وزادت
من انشقاقاته وتعميق جراحه، حيث كشف "كريستوفر هارمر" المحلل السياسي
في معهد واشنطن لدراسات الحرب، في تصريح لصحيفة ديلي بيست الأمريكية،
أن الهجمات الأخيرة على مناطق الشيعة ببغداد أدت إلى زيادة الإنقسام
بين السكان الشيعة حيال المليشيات والأحزاب الشيعية الحاكمة، حتّى أنّ
سكان المناطق الشيعية وسط موجة الذعر التي خلفتها التفجيرات، التي
أعادت إلى الأذهان ما كان يجري في بغداد قبل سنوات، طالبوا المليشيات
الشيعية بحماية مناطقهم، متهمين القوات الأمنية بعدم القدرة على
ذلك.
وفي ذات السياق، وفي مقال له نُشر في صحيفة الغارديان البريطانية، اعتبر الكاتب البريطاني راج علاء الدين، الباحث في كلية لندن للإدارة والإقتصاد، أن استمرار العملية السياسية الفاشلة في العراق ستؤدي به إلى الضياع، وأن مصير البلد مهدد بالزوال وليس مصير تنظيم الدولة، مبينا أن عملية القضاء على التنظيم ليست بالمستحيلة ولكنها بحاجة إلى وجود دولة عراقية.
تحرير الموصل بعد هجمات بغداد إلى الآن يبدو بعيدا رغم أنّ المدينة
تعتبر قبلة عسكريّة للقوات المشتركة بسنتها وشيعتها وأكرادها
المدعومين بقوات خاصّة غربيّة، حتّى أنّ مدير الإستخبارات الأمريكية
السابق، جيمس كلابر، أكّد أن الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة
الأمريكية والحكومة العراقية لاستعادة السيطرة على الموصل سوف تستغرق
وقتاً طويلا، وقد يكون فوضوياً للغاية، معتقدا أن تحرير الموصل لن
يكون في ظل إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
الحرب المشتعلة بين الدولة العراقيّة وتنظيم الدولة الإسلاميّة لا
يبدو أنّها ستنتهي قريبا رغم أنّ معظم التصريحات الغربيّة والعربيّة
تلمّح إلى ذلك، بل إنّ المتابع لمسار الأحداث منذ شهر يونيو 2014
وصولا إلى شهر مايو 2016، سيتأكّد بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ الكرّ
والفرّ سيكون شعار المرحلة القادمة الّتي ستتبعها مرحلة أخرى ستكون
أصعب وأخطر بكثير من الكرّ والفرّ.