هذا المقال بقلم شمس الدين النقاز، والآراء الواردة أدناه تعكس وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
الفلوجة تعود إلى واجهة الأحداث وتتصدّرها من جديد بعد بداية الحملة العسكريّة الضخمة لما قيل إنّه تحرير المدينة من قبضة مقاتلي "الدولة الإسلامية" الّذين سيطروا عليها بداية شهر يناير 2014.
حملة عسكريّة ضخمة تقودها القوات العراقيّة صحبة الحشدين هذه المرّة، حشد سنيّ أو ما يعرف بـ"الصحوات السنية" وحشد شعبي شيعيّ أثارت مشاركته جدلا كبير داخل الأوساط العراقيّة وخارجها بسبب الجرائم والإنتهاكات الكبيرة الّتي ارتكبها مقاتلوه ضدّ المدنيين بعد انتصارهم في معارك سابقة، على غرار ما حصل في تكريت وبيجي وديالى والمقدادية.
عمليّات عسكريّة يشرف عليها شخصيّا قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، إلى جانب عدد من القيادات الأمنية والعسكريّة العراقيّة، بدأت متعثّرة في 72 ساعة الأولى، حيث قالت تقارير إعلاميّة إنّ القوات المشتركة الّتي بدأت هجومها على المدينة من كلّ المحاور تكبّدت خسائر كبيرة بعد أن لقيت مقاومة شرسة من مقاتلي تنظيم الدولة، قبل أن تتمكّن من دخول مدينة الكرمة وتعيث فيها فسادا وإفسادا بحسب ما أكّد ذلك نشطاء بثّوا عشرات الصور الّتي توثّق إحراق وسرقة ممتلكات المدنيين وتفجير مساجد عوامّ المسلمين.
عمليّة "كسر الإرهاب" الّتي بدأت أولى فصولها فجر الإثنين، ستكون الأصعب والأعسر على تنظيم الدولة الإسلاميّة على كلّ المستويات، فهي امتحان جدّي سيبرهن للعالم حقيقة الشعارات الّتي رفعها قياديو التنظيم منذ سنوات، بداءً من البقاء والتمدّد وعدم تسليم المناطق الواقعة تحت نفوذه وصولا إلى الفناء عن بكرة "أبينا" في سبيل الحفاظ والدفاع عن أعراض المسلمين السنة في العراق وسوريا.
لكن ورغم تلك الشعارات، سقطت تكريت وبيجي والرمادي وسنجار وعادت إلى قبضة الحكومات المركزيّة في كلّ من العراق وكردستان، ومع سقوط هذه المدن المهمّة والإستراتيجيّة في طبيعة الصراع الّذي لا ملامح على انتهائه قريبا، سقط الشطر الأوّل من شعار البقاء والتمدّد، بل وسقطت معها عدّة قصص خياليّة نسجها البعض عن تنظيم الدولة الإسلاميّة.
بالعودة إلى الحديث عن معركة الفلّوجة، يمكننا القول، إنّ القوات العراقيّة المشتركة المدعومة بالحشدين أكّدت بما يدع مجالا للشكّ للمتابعين أنّها ضعيفة جدّا في حرب العصابات الّتي أكّدوا في أكثر من مرّة أنّهم تدرّبوا عليها وأصبحوا يتقنونها ويجيدون كلّ فنونها، فما لقيته هذه القوات من مقاومة شرسة على أطراف المدينة من كلّ محاورها رغم تجاوزهم الآلاف في حين أنّ مقاتلي "الدولة الإسلاميّة" لا يتجاوزون المئات حسب مصادر رسميّة، يشرح للمتابع طبيعة المعركة وصعوبتها وأنّها إعلاميّة بالدرجة الأولى.
وفي ذات السياق، بيّنت معركة الفلوجة "الثالثة" كما أطلق عليها نشطاء، أنّ الإنتصار في أيّ معركة ضدّ تنظيم الدولة، لا يمكن أن يتحقّق بدون غطاء جوّي غربيّ وآلاف المقاتلين والعملاء على الأرض، حتّى وإن كان الهدف المنشود قرية لا تتجاوز مساحتها الجمليّة 20 كيلومترا مربّعا، فرغم الحصار الخانق على المدينة طوال العامين والخمسة أشهر الماضية ومنع كلّ المواد الحياتيّة والإغاثيّة من الدخول إلى المدينة بالإضافة إلى الحملات العسكريّة المتواصلة والقصف الجوي الّذي لم ينقطع، إلّا أنّ المدينة بقيت عصيّة على القوات العراقيّة.
مدينة الفلوجة المنكوبة ذات الرمزية الكبيرة للعراقيين، أسقطت القناع عن كثيرين ومن بينهم العشائر السنيّة الّتي ظلّت تنادي في أكثر من مرّة بعدم مشاركة الحشد الشعبي في المعارك، حيث أثبت الواقع أنّ الحشد هو القوة الثانية بعد القوات العراقيّة النظاميّة، في حين كان دور "الصحوات" السنيّة هامشيّا ولا يذكر، كما أثبتت المدينة الصامدة الشامخة والّتي كانت عصيّة على الرئيس الأسبق صدّام حسين وليس فقط على نوري المالكي وحيدر العبادي، أنّ النفوذ الإيراني في العراق بلغ المنتهى خاصّة مع مشاركة قاسم سليماني في التخطيط والقيادة في غرفة عمليّات الفلوجة.
.الدولة الإسلاميّة" في وضع أقلّ ما يقال عنه إنّه حرج، فمن جهة تعتبر خسارة الفلّوجة طامّة كبرى على أهل السنة في المدينة إذا ما دخلتها القوات العراقيّة وميليشيات الحشد الشعبي، فالتهديد والوعيد الّذي أطلقه المسؤولون العراقيون خلال العامين الماضيين والأيّام المنقضية لسكان المدينة وعشائرها تحت ذريعة أنّهم إرهابيون وأنّهم حاضنو الإرهاب والمدينة وكر الإرهابيين، كفيلة بحدوث مقتلة عظيمة إذا ما سقطت الفلوجة، خاصّة وأنّ الجرائم التي ارتُكبت سابقا وتُرتكب حاليّا كانت كلّها خارج تغطية وسائل الإعلام المحليّة والعالمية الّتي لا يسمح لها بالدخول إلى المدن التي يتمّ "تحريرها".
عشائر الفلوجة أمام خيارين لا ثالت لهما، فإمّا نكث البيعة الّتي أعلنوها مدويّة في شهر يونيو 2015 لزعيم "الدولة الإسلامية" أبي بكر البغدادي وإمّا مواصلة "السمع والطاعة في المنشط والمكره" وهو ما يعني الوقوف والقتال جنبا إلى جنب مع مقاتلي "الدولة" وهو المنتظر كما سبق للأسباب الّتي سبق ذكرها.
تسريبات النشطاء من داخل المدينة الّتي لا يعلم أحد ما يحدث بداخلها الآن إلّا قاطنوها، تؤكّد أنّ بعض العشائر أعلنت نيّتها رفع السلاح والدفع بأبنائها جنبا إلى جنب مع مقاتلي "الدولة" في سبيل حماية المدينة خاصّة إذا ما انتقلت المعركة إلى وسط "الفلوجة" في الأيام المقبلة، كما نقل بعض الناشطين على مواقع التواصل الإجتماعي أخبارا غير مؤكّدة تقول إنّ هناك إعدامات قد حصلت داخل المدينة لبعض من ثبت تعامله مع الجيش العراقي والتحالف الدولي إضافة إلى من تمّ كشف مخطّطاته الهادفة إلى إحداث البلبلة وقتال داخلي في المدينة وهو ما سيسهّل الأمر أكثر فأكثر على القوات العراقيّة.
سقوط الفلّوجة في قبضة القوات العراقيّة سيكون بلا شكّ سيكون أكبر ضربة يتعرّض لها تنظيم الدولة الإسلاميّة منذ أن أعلن "الخلافة" وتنصيب "الخليفة" في شهر يونيو 2014، فرمزيّة المدينة وتاريخها وطبيعتها السكانية كلّها تشرح لنا أهميّة المعركة للطرفين، فإمّا ضربة تكاد تكون قاضية للمكوّن السنّي في محافظة الأنبار وإمّا نصر معنوي وصمود أسطوريّ لمقاتلي تنظيم الدولة لا يمكن أن ينكره حتّى ألذّ خصومهم ولو فيما بينهم.
المعارك الآن تبعد حوالي 16 كيلومترا شمال شرق مدينة الفلوجة بعد "تحرير" الكرمة، وإذا ما دخلت القوات العراقيّة والميليشيات الشيعيّة المدينة "محرّرين" فمن المرجّح أنّهم سينفّذون وعيد قائد ميليشيات “أبو الفضل العباس” أوس الخفاجي الّذي قال قبل أيّام إنّ “الفلوجة هي منبع الإرهاب، منذ 2004 إلى يومنا هذا، ولا يوجد فيها شيخ عشيرة آدمي، ولا إنسان وطني ولا شخص ملتزم دينيا، حتى في مذهب السُنة..وهذه فرصة لتطهير العراق، لاستئصال ورم الفلوجة منه وتطهير الإسلام في العالم كله، فهذا شرف لا بد من المشاركة فيه وأن نناله، وأن نكون من السباقين في هذه المدينة".
في الأخير يمكننا القول، إنّ معركة الفلوجة لن تكون حاسمة من أجل استعادة الموصل، ولا يعني ذلك أنها غير مؤثرة، لكن من المرجّح أنّ خسارة "الدولة الإسلاميّة" لـ"ولاياتها" الّتي وعدت بعدم تسليمها مهما كانت الصعوبات ومهما ارتفعت الخسائر والتكاليف، سيفقدها كثيرا من المصداقيّة أما أنصارها و"رعاياها" والمتعاطفين معها في مناطق متفرّقة من العالم، فهل يتمّ "تحرير" الفلّوجة أم أن الكلمة النهائيّة ستكون للمفاجآت من جانب تنظيم الدولة الإسلاميّة؟