هذا المقال بقلم محمد الناصري، المدير الاقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة في منطقة الدول العربية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظره، ولا تعكس بالضرورة رأي CNN.
في لغتنا العربية، نؤنث الكثير من معاني الوطن. فالأرض أنثي، والأمة أنثي، والمواطنة والحقوق إناث أيضاً. نؤنث أيضاً الكثير من معاني السلام: فالرحمة أنثي، والمصالحة أنثي، والعدالة أنثي. وبينما يبقي الوطن والسلام مذكرين، لا يمكن أن يبقى الوطن وطناً أو أن يُبنى سلاماً دون تلك الإناث مجتمعةً.
يمر العالم العربي بواحدة من أسوأ الفترات في تاريخه الحديث: فمن نزاع مسلح في سوريا، العراق، ليبيا، اليمن بالإضافة للصراع الأطول في فلسطين، لأسوأ أزمة لاجئين تمر علي العالم منذ الحرب العالمية الثانية تسببت فيها الأزمة السورية، لحقيقة أن ثلاث من أسوأ أربعة أزمات إنسانية في العالم تتركز في المنطقة العربية في سوريا واليمن والعراق.
في ظل تلك الأزمات الطاحنة، لا تنسوا النساء.
ولا أعني بذلك الجانب الذي يراه الجميع بالفعل كل يوم علي الشاشات وصفحات الجرائد من النساء ضحايا الحرب والأزمات، المتشحات بالسواد والمتسربلات بالعويل، بل أعني الجانب الآخر الذي نراه نحن كل يوم والذي يلي العويل ويسبقه، أعني الناجيات اللائي يحملن علي أكتافهن أوزار الأزمات التي نبدأها نحن الرجال، من يمسحن الدمع بيد، ثم يعدن بناء أوطاننا باليد الأخري في صمتٍ دون أن يتذكرهن أحد. أعني بالنساء ناشطات ليبيا الباسلات اللاتي لم يستسلمن لخطر الإغتيال المتزايد بعد سلسلة من الإغتيالات للناشطات من النساء لم تكن سلوي بوقعقيص أولهن ولن تكون انتصار الحصائري آخرهن. أعني نساء سوريا اللائي اجتمعن في الأمس القريب ببيروت في مؤتمر لصانعات السلام ليحكين حكايات الفقد والخسارة ويترفعن علي اختلافاتهن السياسية رغم كل شئ ويتعهدن ببناء السلام بين الاتجاهات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني التي يمثلنها، أعني بالنساء اللاجئات السوريات اللائي يعُلن ربع الأسر السورية في لبنان ومصر والأردن والعراق.
لا تنسوا النساء لأن الحل يبدأ من عندهن. في كل فعالية نسائية لبناء السلام، أقف متحسراً علي ما ضاع من عمر العالم العربي دون أن تتسلم النساء نصيبهن في القيادة، واتساءل: ربما ما كنا هنا لو كان لهن تمثيل مساو في مواقع صنع القرار، ربما لو كن هنّ المتزعمات لحركات التفاوض والوساطة لكنا انتهينا من النزاعات في وقت أبكر، ربما تتجنب بقية الدول العربية بتمثيل النساء في دوائر صنع القرار الوقوع في فخ الصراعات المسلحة والإرهاب.
الدلائل كثيرة علي ضرورة أن نمنح النساء الأولوية في الأزمة التي تمر بها المنطقة العربية، فقد أثبتت التجربة والدراسة في السنوات التي تلت إصدار قرار مجلس الأمن رقم 1325 لعام 2000 والذي اعترف بمعاناة النساء الأكثر حدة في أوقات النزاعات والصراعات وطالب بتضمينهن في عمليات بناء السلام والتعافي، أن اتفاقيات السلام التي تتضمن تمثيلاً نسائياً فعالاً في عمليات المفاوضات والوساطة أكثر استدامة بكثير من اتفاقيات السلام التي تقصيهن. كما أثبتت التجارب والدراسات، وتجارب هيئة الأمم المتحدة للمرأة في جمع نساء ممثلات للأطراف المتنازعة في ليبيا وسوريا واليمن للتوصل للإتفاق، أن النساء أكثر قدرة علي وضع خلافاتهن السياسية جانباً وتغليب المصلحة العامة ورؤية الصورة الكاملة حتي من وجهة نظر الخصوم السياسيين أحياناً. فلن أنسي ما حييت يوم أن وقفت ناشطة سورية في إحدي فعاليات بناء السلام التي عقدتها هيئة الأمم المتحدة مؤخراً، والتي شغلت يوماً منصباً في الحكومة قبل بداية الحراك لتحكي عن فقدها لولدها الوحيد الذي اغتيل في جامعته علي مقاعد الدراسة في خضم الأحداث ثم تعلن أنها علي أتم الإستعداد للتصالح برغم الخسارة إن كان ذلك يعني أن غيرها من الأمهات السوريات لن يعانين ما عانت هي. ثم لن أنسي ما حييت عندما وقفت أخري من المعارضة، تحكي فقدانها لإبنها وزوجها في غياهب المعتقل منذ ما يزيد عن الـ3 سنوات لتعلن بدورها استعدادها للتصالح. لن أنسي توالي الحكايات والقصص، وتوالي عروض العفو والمصالحة بين الخصوم السياسيين. كما لم أنسَ شعوري العميق بالأمل حينها بأن السلام ممكن في سوريا، فقط لو استثمرنا قليلاً في نسائها الناشطات في صناعة السلام.
وبينما تتعدد الدلائل والتجارب والبراهين، يبقي الإستماع لأصوات النساء حقً مطلقً قبل أي شئ، فهن من يعانين العنف الجنسي في أماكن النزاع، بل ويتعرضن للبيع والشراء في بعض الأحيان، هن العائلات لأسرهن في أماكن اللجوء، هن المرغمات علي وضع أطفالهن في غياب الخدمات الصحية الأساسية، هن من يحرمن من التعليم خوفاً من التنقل في ظل التهديد الماثل في العنف الجنسي المحتمل، هن من يبنين الأسر، ويربين جيلاً يستمد كل أفكاره عن الوطن منهن.
استثمروا في النساء وتذكروهن، ليس لأنهن الأضعف والأكثر عرضة للخطر- بل لأنه لا تغيير بدون مشاركتهن، ولا سلام، ولا وطن.