هذا المقال بقلم شمس الدين النقاز، والآراء الواردة أدناه تعكس وجهة نظره، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة رأي CNN.
فجأة ودون سابق إنذار، أعلنت حركة النهضة "الإسلامية" في تونس عن التخصّص في العمل الحزبي والفصل بين الدعوي والسياسي، نظرا للمتغيّرات الإقليميّة واستجابة لمتطلّبات المرحلة الراهنة التي فرضت ذلك.
قرار حركة النهضة أثار جدلا كبيرا لدى مناصريها ومناوئيها في نفس الوقت، فمن جهة يرى خصوم هذا الحزب "الإسلامي" التونسي أنّ ما أقدمت عليه النهضة لا يعدو أن يكون مناورة سياسية معتمدين في ذلك على قاعدتهم المطّردة "الإسلاميون لا يؤتمنون ودائما ما يناورون لتحقيق أهدافهم"، لكن وفي نفس الوقت يرى عديد المقرّبين من "النهضة" داخل تونس وخارجها، أنّ القرار الأخير انسلاخ من التاريخ والماضي، ونسيان للتضحيات التي قدّمها الإسلاميون طيلة نحو 4 عقود من العمل السياسي السري والعلني داخل تونس وخارجها.
رئيس حركة النهضة "راشد الغنوشي" وفي كلمته التي ألقاها بمناسبة افتتاح المؤتمر العاشر في 20 من شهر مايو الماضي، أكّد مضي الحركة قدما في الفصل بين العمل السياسي والحزبي بقوله "إن التخصص الوظيفي بين السياسي وبقية المجالات المجتمعية ليس قراراً مسقطاً أو رضوخاً لإكراهات ظرفية بل تتويج لمسار تاريخي تمايز فيه السياسي عن الدعوي في حركتنا بحكم التطور وتماهياً مع ما جاء به الدستور التونسي"، وأظن أن هذه خطوة مهمة في الإتجاه الصحيح" لكن الحقيقة الّتي لا يمكن إنكارها والواقع الّذي نعيشه يفنّد ما قاله الغنوشي.
قرار حركة النهضة بفصلها بين الدعوي والسياسي في العمل الحزبي كان ضرورة ملحّة ومسايرة من "دهاة" السياسة في الحركة لمتطلّبات المرحلة الراهنة الّتي أصبح فيها الإسلاميون مهدّدين في وجودهم السياسي ليس فقط كحكومات صعدت بانتخابات ديمقراطيّة إلى كرسيّ الحكم بعد انتفاضات "الربيع العربي"، بل أيضا كمعارضة سياسيّة سلميّة مثلما حدث في مصر بعد "الإنقلاب العسكري" الّذي قام به الجنرال عبد الفتاح السيسي ثمّ تمكّن على إثره من حكم مصر وفرض مناخ حزبي وسياسي لم تعرفه البلاد حتّى في أحلك فتراتها.
قياديو حركة النهضة وفي أكثر من حوار كانوا قد أكّدوا أنّ النموذج المصري كان دائما نصب أعينهم، فما حصل لـ"إخوانهم" في مصر دفعهم لمراجعة خياراتهم وأولوياتهم إلى أن وصل بهم الأمر إلى "الإرتداد" و"الإنسلاخ" من نهج الإخوان المسلمين والزعم أن لا قواسم مشتركة بينهم ولا علاقة تجمعهم بهم في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، رغم أنّ الغنوشي زار مصر في نهاية شهر يونيو 2012، وشارك في "مليونية تسليم السلطة" بميدان التحرير، وحضر الخطاب الشعبى للرئيس محمد مرسي وقديم له التهنئة بصفته أول رئيس مصري مدني منتخب بطريقة ديمقراطية.
زعم حركة النهضة وقيادييها أنّهم ليسوا إخوانا مسلمين، وأنه لا علاقة تربطهم بمنهج "الإخوان" مناورة سياسيّة كبرى لها أهدافها ولكن الواقع ينفيها ويفنّدها، فمن تربّى على كتب حسن البنا وسيد قطب ويوسف القرضاوي وغيرهم من رموز ومفكّري الإخوان، لا يمكن أن يكون إلّا إخوانيا، كما أنّ التاريخ الّذي دوّن بين صفحاته مدح راشد الغنوشي لكبار قيادات الإخوان المسلمين في العالم لا يمكن لتصريحات اضطراريّة في فترة عصيبة أن تمحوه.
.التخصّص" الّذي أسفر عنه مؤتمر النهضة العاشر، حوّل الحركة من حزب "إسلامي" إلى آخر "علماني" بحت، رغم إنكار ذلك من قبل قياديي النهضة الذين اعتبروا القرار الأخير تطويرا في العمل الحزبي، فبعد هذا القرار يمنع منعا باتا على كلّ أعضاء الحركة وقيادييها التحدّث باسم الإسلام لأنّه تمّ "القطع مع الشمولية العقائدية واحتكار النطق باسم الدين والتحول إلى حزب مدني معاصر قلباً وقالباً".
القيادي في حركة النهضة "لطفي زيتون" الّذي أفجع الجميع بإعلانه أنّ "النهضة تخلصت الآن من سجن الإسلام السياسي الذي حشرت فيه لسنوات" برّر قرار التخصّص بقوله إنّه "لم تعد هنالك ضرورة الآن لأنه صارت لنا قوانين متقدّمة في العمل الحزبي والعمل الجمعياتي وستكون الحركة شمولية تجمع كل هذه النشاطات تحت سقف واحد" مضيفا "سنشجع كل أعضاء الحركة على الإنتماء إلى الجمعيات ودعم المجتمع المدني كل حسب تخصصه وحسب ميولاته كما تفعل الأحزاب السياسية في البلدان المتقدّمة، أي أن يكون للسياسي نشاط سياسي ونشاط جمعياتي في جمعية إغاثية أو جمعية ضد مرض من الأمراض أو جمعية تحرّض على الأخلاق الحميدة كجمعيات مقاومة التدخين والإدمان، سنشجع أعضاءنا بشكل فردي لأن الممنوع في تونس هو الجمع بين قيادة الجمعياتي وقيادة العمل الحزبي".
قرار الفصل بين الدعوي والسياسي الّذي أقرّته حركة النهضة لم يكن بدعة "تونسية"، حيث قام به من قبل حزب العدالة والتنمية في تركيا في عهد رجب طيب أردوغان، وكذلك الحركة الإسلامية المغربية في عهد زعيمها الراحل عبد السلام ياسين التي انتهت إلى ضرورة الفصل بين الدعوة الدينية التي بقي يزاولها "العدل والإحسان" والعمل السياسي الّذي يمارسه حزب العدالة والتنمية وتمكن عبره من الوصول إلى الحكم، لكن البدعة وبحسب بعض المقرّبين من حركة النهضة أنّ مصدر فكرة الفصل بين السياسي والدعوي هم "من كانوا في المنافي وعادوا إلى البلاد بعد الثورة" ثمّ أعلنوا تبرّؤهم من الإخوان المسلمين، فكأنّ هؤلاء المنفيين من تونس إبّان فترة حكم الرئيس الأسبق المعزول زين العابدين بن علي هم أصحاب القرار الأوّل والأخير داخل الحركة.
أقرب المقرّبين من قياديي النهضة في منافي "لندن" وهو الإعلامي الإخواني عزام التميمي، وفي إطار تعليقه على قرار الفصل بين الدعوي والسياسي والتبرّؤ من الإخوان المسلمين، كان قد تساءل عن أسباب هذا القرار قائلا "ما الذي يجري يا إخواننا في حركة النهضة؟ هل تراه تحديا للسلطة بعد العودة من المنافي؟ هل تراه همس الهامسين في آذان بعضكم في منتديات تعقد هناك وهناك أن غيروا قبل أن تتغيروا وبدلوا قبل أن تستبدلوا؟ هل هي صدمة الإنقلاب على الإخوان في مصر؟ هل هو صراع من أجل البقاء، بأي ثمن وبأي شكل؟ وما قيمة البقاء إذا تخلى الإنسان عن أعز ما يملك؟" ممّا يؤكّد أنّ القرار الأخير أثار حفيظة حتّى أقرب المقرّبين من الحركة.
ولكن ورغم أنّ بعض رموز "الإخوان" في العالم مستاؤون من هذا القرار الأخير للنهضة، إلّا أنّ أحزابا "إسلاميّة" أخرى أظهرت فرحها وترحيبها بذلك، فبمناسبة انعقاد المؤتمر الإستثنائي لحزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة المغربية، قال أمين عام الحزب عبد الإله بنكيران إن حزبه كان سباقاً إلى الفصل بين الدعوة والسياسة، من خلال عدة مراجعاتٍ تدريجيةٍ أدت إلى ميلاد ما وصفه بأنه حزب "سياسي مدني"، كما كشفت جماعة الإخوان المسلمين بمصر عن عدم ممانعتها مناقشة قضية الفصل بين العمل الحزبي التنافسي ونظيره الدعوي والتربوي، للمرة الأولى منذ تأسيس حزبها السياسي الحرية والعدالة عام 2011، الذي حظرته السلطات عام 2014.
في نهاية المطاف يمكننا القول، إنّ قرار حركة النهضة الفصل بين الدعوي والسياسي كان ضرورة ملحّة لمتطلّبات المرحلة الراهنة بالإضافة إلى أنّه استجابة لضغوطات خارجيّة خوفا من تكرار السيناريو المصري في تونس، رغم إنكار قيادييها لذلك، إلّا أنّه ورغم كلّ هذه "الإصلاحات" داخل الحركة، تبدو النهضة إلى الآن عاجزة عن إقناع خصومها داخل البلاد وخارجها أنّها حزب "علماني" "مدني" يفصل بين الدين والدنيا ويقطع مع كلّ ما له علاقة بالهويّة خلال العمل الحزبي.