هذا المقال بقلم محمد نعمان جلال، كاتب مصري، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون صحيفة الشروق المصرية، كما أن الآراء الواردة أدناه تعكس وجهة نظره ولا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
ثورات الشعوب تعبر عن ثلاث حقائق الأولى أنها تعبر عن الحس والطموحات والآمال الوطنية للشعب بمختلف فئاته وقواه السياسية وطبقاته. الثانية أنها تعبر عن الحس الوطني العام والمسيرة الوطنية للشعب المصري بغير تمييز. والثالثة أنها تقدم رؤية للمستقبل وليس للماضي دون أن يعني ذلك تجاهل الماضي أو الانغماس فيه وإنما الاستفادة من عبره ودروسه لبناء المستقبل.
والثورة في المفهوم التقليدي عمل شعبي بعيدا عن القوة العسكرية ولكن من الناحية الواقعية فإن أي دارس لتاريخ الثورات يجد أن بينها وبين القوة العسكرية رباطا وثيقا فليست هناك حركة تغيير جذري بدون تغيير النظام القديم ولا يمكن تغيير أي نظام في المجتمع دون اللجوء للقوة العسكرية. ولكن هناك فارقا جوهريا بين الاستخدام المفرط للقوة لأهداف شخصية بحتة وبين تناغم وتفاعل القوة العسكرية مع المجتمع وطموحاته ومشاكله لأن القوة العسكرية في أي مجتمع هي من الشعب بمختلف قواه الفاعلة والمعبرة عن طموحاته وآماله.
ولهذا عندما قامت الثورة الروسية أو الثورة الصينية أو ثورة مصر 23 يوليو 1952 أو ثورة مصر 25 يناير 2011 لعبت القوة العسكرية دورا مهما في إطلاق المسيرة أو في حمايتها. بل إن النموذج التقليدي للثورات وهو الثورة الفرنسية استمرت عشر سنوات (من عام 1789 إلي عام 1799) في صراع دموي لولا أن نابليون بونابرت انقذها بعد مذابح روبسبير والاتجاهات المتطرفة في تلك الثورة التي اتسمت بالعنف الشديد ونصبت المشانق للقيادات القديمة للوطن ولم تستقر الأوضاع في فرنسا إلا بعد حوالي مائة عام.
***
وعلينا أن نفكر بمنطق المستقبل وبمنطق قانون التغيير في الفكر والسياسة والعمل وليس مثل بعض علماء السياسة أو بعض السياسيين الذين تربوا في أحضان الفكر الغربي الذي يعيش تاريخه في تناقضات عجيبة لا يرى ما يفعله بالدول الأخري من جرائم واحتلال واستعمار عبر القرون. كما أن بعض منظّري سياساته وضعوا أفكارا غير دقيقة علميا وسار على نهجها كثير من مثقفينا العرب معصوبي العيون مغلقي العقول.
إن نجاح أي ثورة مرتبط بالاستعداد العسكري واستخدام القوة إذا لزم الأمر ولذلك قال القرآن الكريم "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" والغزوات الاسلامية من غزوة بدر حتي فتح مكة وما بعدها خير شاهد علي ذلك.
ما أريد قوله إن ثورة يوليو 1952 جاءت كانقلاب عسكري تقليدي وأطلق عليها قادتها الحركة المباركة ثم تفاعل معها الشعب المصري والشعوب العربية بل وشعوب البلاد النامية لأنها عبّرت عن أمالهم وطموحاتهم في الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية. ومن هنا ازدادت شعبيتها بإعلان قانون محاربة الإقطاع والإصلاح الزراعي وقانون التمصير والتأميم للقطاعات الاقتصادية الكبري التي كان يسيطر عليها كبار الرأسماليين الأجانب وفي مقدمتها تأميم قناة السويس والقوانين الاشتراكية عام 1961 وأيضا مساندتها لثورات الشعوب العربية وشعوب أفريقيا والدول النامية من أجل الاستقلال الوطني ومقاومة الاستعمار وبلورة نظريتها في بناء المستقبل علي أساس المبادئ الستة للثورة ثم ميثاق العمل الوطني ثم بيان 30 مارس بعد الهزيمة لإصلاح عيوب الثورة في ممارستها للسلطة رغم قيامها بالإنجازات المشهورة من خلال المشروعات الكبري مثل السد العالي وبناء صناعات حديثة مثل الحديد والصلب والألومنيوم ومجانية التعليم والصحة وغيرها. ولكن الثورة كغيرها واجهت تحديات الانفصال 1961 والتآمر ضدها والعدوان الثلاثي عام 1956 والهزيمة الكبري عام 1967 وأخذ جمال عبد الناصر بعد ذلك في تصحيح المسار ولكن لم يمهله القدر.
***
وجاء بعده السادات ليأخذ علي عاتقه استمرار المسيرة بأسلوب مختلف فقاد حرب أكتوبر المجيدة 1973 التي أعادت للجيش وللوطن وللعرب مكانتهم ومن هنا انطلق أصحاب النفط في رفع سعره لاستعادة حقوق شعوبهم من الشركات الاستعمارية التي كانت تبيعه للغرب بثمن بخس ويحصل أصحابه علي الفتات. وهكذا الثورة تصحح نفسها وأيضا الثورات كما يقول قانونها تأكل أبنائها عبر السنين.
ولو نظرنا لأي ثورة بما في ذلك الثورة الفرنسية أو الروسية أو الصينية أو حتى الأمريكية نجد كثيرا ممن قاموا بها تنحوا أو تم تنحيتهم لاختلافهم مع القيادة التي أخذت تطور أساليبها لمواجهة التحديات التي لم تكن تدرك أبعادها عندما قامت في البداية. ومن هنا جاء تصحيح السادات بحركة 15 مايو ضد من أسماهم مراكز القوى وتغييره لكثير من السياسات تماشيا مع التغيرات العالمية سياسيا واقتصاديا ومع نظرية الواقعية السياسية في إدراك أبعاد العلاقات الدولية والإقليمية وهو ما لم يكن الثوار في عام 1952 مدركين لأبعاده الكاملة الحقيقية والمفاهيم والمعلومات الحقيقية المتصلة بها.
للأسف أساء الرئيس مبارك لتاريخه لخضوعه لإرادة أسرته وحقا قال القرآن الكريم "إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم".
***
ثورة مصر 25 يناير 2011 جاءت بنفس النموذج حركة شعبية أيدتها القوات المسلحة وقامت بحمايتها ولولا ذلك لكان شعب مصر بين لاجئين وقتلي ومشردين والباقين يبحثون عن رؤية أو مخرج من خلال ممثلي الأمم المتحدة ولضجت منها الشعوب العربية والعالم بأسره لمواجهة مشاكلها ولتحولت لقاعدة للإرهاب تحت مسمي الإسلام -البعيد في جوهره عن ذلك- وربما أصبحت مصر تابعة لهذه الدولة الإقليمية أو تلك تحت أطروحات إسلامية زائفة. فهناك نظم ثيولوجيَّة لأحفاد القياصرة وأخري ثيولوجيَّة لأحفاد هولاكو وجنكيز خان وتمارس الإعدام لكثيرين من شعوبها ومفكريها وقضاتها وقادتها العسكريين بهدف فرض أنظمتها الديكتاتورية وطموحات قادتها الأبدية في السلطة.
وثورة 25 يناير 2011 في مصر كانت بقيادة نخبة من الشباب الوطني الطاهر ولكن لم تتوافر له الخبرة السياسية أو الإدراك الكافي للسياستين الوطنية والدولية والتآمر الإقليمي. كما عانى من غياب الرؤية الشاملة والكادر السياسي الثوري والقوة العسكرية الداعمة والمساندة والقدرة علي التعامل مع الأزمات ومواجهتها ولهذا تم اختطاف ثورته.
وكانت عودة الحركة الجماهيرية الشعبية عبر ما سمي حركة تمرد علي مدي أربعة شهور تعمل علانية بين الجماهير وليس كعمل سري. والحس الوطني للقوات المسلحة هو نفس نمط تحركها منذ ثورة أحمد عرابي تعبيرا عن مطالب الشعب وأماله وهو نفس ما حدث في 1952 وفي 25 يناير عندما رفضت القوات المسلحة توجيه بنادقها للشعب المتظاهر وهو ما حدث في 3 يوليو 2013. وهذا هو السلوك الوطني للقوات المسلحة المصرية.
هذه هي مصر بهويتها وعقيدتها الدينية المتسامحة الجامعة التي تحتضن كل أبنائها إلا الذين في قلوبهم مرض وفي أعينهم عمي.
وبارك الله في مصر وشعبها وجيشها وشرطتها وقضائها وقوتها الناعمة من علماء ورهبان وأساتذة وإعلاميين ومثقفين ما داموا يضعون مصر دائما في قلوبهم ونصب أعينهم.
وتحية لشعب مصر العظيم صاحب التاريخ العريق والحضارة الإنتاجية التي خلَّفت أثارا لا مثيل لها والمسالمة إلا ضد من اعتدى عليها وعلي شعبها مثل الهكسوس والتتار وحلفائهم وأعوانهم واشباههم.