هذا المقال بقلم شمس الدين النقاز، صحفي وباحث في الجماعات الإسلامية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
بعد طول ترقب وترصّد، انتهى موسم الحج للعام 1437هـ/2016، بنجاح تنظيمي للمملكة العربية السعودية، بعد أن ظل الملايين يترقبون ماذا سيحدث هذا العام ممني النفس بعدم تكرار كارثة منى التي راح ضحيتها مئات الحجاج معظمهم من الإيرانيين.
طوال الأشهر الماضية، ظلّ موضوع الحج وقدرة المملكة على تنظيمه الأبرز على الإطلاق، فتصريحات المسؤولين الإيرانيين التي تتوعّد السعودية بالثأر والقصاص لدماء ضحاياهم زادت الحرب المشتعلة بين البلدين التهابا.
ليست الحرب الكلامية بين المملكة العربية السعودية وإيران جديدة كما أنها لم تكن في يوم من الأيام وليدة اللحظة، بل هي حرب تعود جذورها إلى عشرات السنين، بل إن أسباب صراع السعودية "السنية" وإيران "الشيعية" لم تكن فقط مذهبية عرقية، وإنما كانت أيضا سياسية يحركها حب التسلط والسيطرة وإعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية وجعل العرب "تبّعا لأسيادهم الفرس" الذين كانوا يحكمون ويسودون قبل قرون قد خلت، بحسب زعمهم.
للمرة الثانية منذ الثورة الإيرانية لم يتمكّن الإيرانيون من أداء فريضة الحج بعد اتخاذ إيران قراراً بمنع مواطنيها من المشاركة في موسم الحج، وذلك بعد فشل المفاوضات بين مسؤولي الحج في السعودية وهيئة الحج الإيرانية لتنظيم سفر الحجاج الإيرانيين إلى المملكة، حيث زعمت هيئة الحج أن السعودية وضعت شروطا لا يمكن لها أن تقبلها، بيد أن وزارة الحج السعودية أكدت أن بعثة "منظمة الحج والزيارة الإيرانية" امتنعت عن توقيع محضر إنهاء ترتيبات قدوم الحجاج الإيرانيين لأداء فريضة الحج، وقالت وزارة الحج السعودية إن المملكة ترفض تسييس هذه الشعيرة أو المتاجرة بالدين.
في حقيقة الأمر، لا نعلم الأسباب الحقيقية التي دفعت منظمة الحج والزيارة الإيرانية لعدم توقيع محضر إنهاء ترتيبات قدوم الحجاج الإيرانيين لأداء الفريضة الخامسة، لكننا في نفس الوقت متأكدون أن المسؤولين الإيرانيين كانوا يرغبون في إفشال المفاوضات مع الجانب السعودي لتحقيق أهداف شخصية يبقى أبرزها إظهار المملكة في ثوب الصاد عن سبيل المسجد الحرام، وهو ما ذكره المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله خامنئي في تصريحات سابقة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اجتهد المسؤولون الإيرانيون في التحريض على النظام السعودي بدعوى أنهم غير جديرين بإدارة الحج ومستندهم في ذلك ما حدث في منى العام الماضي، ولعل آخر هذه التصريحات، ما ذكره قائد فيلق عاشوراء في الحرس الثوري الإيراني اللواء غلام عسكر كريميان، السبت، أن "النظام السعودي برهن للعالم خلال كارثة منى على عدم أهليته وعدم جدارته في إدارة مناسك الحج، وقد بدأ العد العكسي لسقوط هذا النظام الشرير".
الحرس الثوري، قادة الميليشيات الشيعية المسلحة في العراق وسوريا واليمن وغيرهم من المرجعيات الشيعية، لم يتركوا فرصة مهاجمة السعودية خلال كل ظهور لهم، حتى أن وسائل الإعلام التي تنقل الأخبار أولا بأول ملّت وكلّت من نقل تصريحاتهم الطائفية، ولكن في المقابل بان بالكاشف للمتابعين أن خطاب الكراهية والتحريض لم يكن سعوديا وإنما كان إيرانيا بالأساس.
الخطابات التحريضية والتصريحات النارية التي يطلقها هؤلاء بين الفينة والأخرى لم تكن كافية لكي يلتزم الرئيس الإيراني حسن روحاني الصمت ويتجنب الحرب الكلامية ويخيّر الحياد، ففي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك قبل أيام، هاجم روحاني، سياسات السعودية قائلا إن على المملكة "الكف عن مواصلة سياساتها المثيرة للتفرقة وترويج أيديولوجية الكراهية وانتهاك حقوق الجيران"، ولا نعلم هنا أي جيران يتحدث عنهم روحاني، فهل يعني بذلك الحوثيين الذين كانوا سببا في تخريب اليمن وتدميرها وتهجير مئات الآلاف من رجالها ونسائها وأطفالها، أم الجيران الذين انقلبوا على إرادة الشعب وسيطروا على العاصمة صنعاء وأعلنوها ولاية من ولايات الفقيه.
إن السلطات السعودية التي ألزمت رجال الدين بتجنب الدعاء على إيران والشيعة "عينا" في خطاباتهم وصلواتهم، لم تستطع أن تصمد طويلا أمام خطابات الكراهية التي يطلقها بين الفينة والأخرى المسؤولون الإيرانيون، فجاء الرد هذه المرّة صادما من قبل مفتي المملكة عبد العزيز آل شيخ، الذي كفّر شيعة إيران ونعتهم بالمجوس وذلك في إطار ردّه على طعن خامنئي في تنظيم موسم الحج من قبل السعودية، حيث قال مفتي المملكة "أمر غير مستغرب على هؤلاء، يجب أن نفهم أن هؤلاء ليسوا مسلمين، فهم أبناء المجوس، وعداؤهم مع المسلمين أمر قديم وتحديدا مع أهل السنة والجماعة".
تصريحات الشيخ عبد العزيز آل شيخ كانت صادمة لكل متابعي الأزمة بين البلدين، لكن في نفس الوقت رآها آخرون ردّا شرعيا على تصريحات خامنئي التي اتهم فيها المملكة بقتل الحجاج، الذي علقوا في ازدحامات العام الماضي، وذلك بقوله "لقد زجّهم الرجال السعوديون المجرمون القساة القلوب مع الموتى في حاويات مغلقة، وقتلوهم شهداء بدل معالجتهم ومساعدتهم أو حتى إيصال الماء إلى شفاههم الظامئة".
التلاسن الذي وصل إلى حد التكفير والتفسيق والتبديع وإسقاط النصوص الشرعية في غير محلّها، ستكون له تداعيات سلبية مستقبلا خاصة وأن حرب الوكالة بين البلدين قد زاد اشتعالها خلال الفترة الأخيرة، فبينما أعلن الأمير تركي الفيصل صراحة عن عزم بلاده دعم المعارضة الإيرانية لإسقاط نظام الملالي وذلك خلال اجتماعها الأخير في باريس في شهر يوليو الماضي، كثّفت الميليشيات الإيرانية في كل من العراق واليمن ولبنان من تهديداتها للسعودية.
إن قرار إيران بمقاطعة الحج ما هو إلا قرار سيادي سياسي كان هدفه الأساسي إحراج السعودية وإظهارها في ثوب الصاد عن الحج، لكن هذا القرار الذي دفع الحجاج الإيرانيون ثمنه لم يكن صائبا ولم يحقق أهدافه المرجوة، فبشهادة الجميع، تمكّنت السعودية هذا الموسم من تنظيم الحج بلا مشاكل تذكر، وهو ما أرجعه مراقبون إلى غياب الحجاج الإيرانيين الّذين عرفوا خلال السنوات الماضية بوقوفهم وراء جل المشاكل التي تقع خلال موسم الحج بسبب طقوسهم الطائفية الخاصة، بالإضافة إلى مخالفتهم المستمرة للقوانين والإجراءات المعمول بها.
في النهاية، من باب التذكير وليس أكثر، فإننا نؤكد أن المنطقة تعيش أوضاعا صعبة لا يمكن التنبؤ بمستقبلها كما لا يمكن فهم حاضرها، خاصة مع تعدد الأطراف المتدخلة في شأنها والتي لا تدخر جهدا في تأجيج الصراع واللعب على حبال التفرقة والتقسيم الذي أصبح اليوم خطرا يهدد كل دول المنطقة بدون استثناء.