هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي CNN.
السلطة المصرية وكل النخب السياسية والثقافية التى تؤيدها بشكل مطلق هى المسؤول الأول عن الأزمات السياسية والاقتصادية والمجتمعية فى مصر، هذا ليس موقفًا سياسيًا أو افتراضًا يحتاج للإثبات العملى أو العلمى، ولكنها حقيقة بسيطة تعبر عن تحميل المسؤولية للسلطة الحاكمة -أي سلطة حاكمة- فى أي زمان ومكان، هو ما يمكن أن نقول عليه ما هو معلوم من السياسة بالضرورة! لكن هل تقف الأزمة المصرية فقط عند حد تحميل السلطة المسؤولية عن الفشل؟
للأسف هناك جوانب أخرى للمسؤولية والأزمة، صحيح أنها جوانب تبدو فرعية ومسؤوليات تبدو هامشية، لكن بدون مناقشتها لا يمكن أن تكتمل الصورة أبدا.
***
خلال الأيام القليلة الماضية كان العنوان الأكبر فى الفضاء العام هو "المؤتمر الوطنى الأول للشباب"، وهو المؤتمر الذي اتخذ أسماء إعلامية وسياسية أخرى أبرزها "حوار الشباب"، لمدة ثلاثة أيام فى مدينة شرم الشيخ حيث كانت فعاليات المؤتمر تجرى فى ظل تغطية إعلامية مكثفة وتعليقات متنوعة من الرأى العام وكذلك فى ظل انقسامات حادة فى المواقف السياسية بين المشاركين والمقاطعين.
تابعت ما استطعت من جلسات المؤتمر، ولاحظت بشكل عام أنها كالعادة إطار مكرر لتنشئة الشباب سياسيا وحشدهم ثقافيا فى اتجاهات محددة تؤيدها السلطة وتدعمها، لم يكن حوارا حقيقيا بقدر ما كان رسالة من الأجيال الأكبر وشيوخ الشأن العام إعلاميا وسياسيا وثقافيا لتوجيه الأصغر سنا، ورغم ذلك فليس كل ما قيل سيئا، بعض المداخلات كانت موفقة وطرحت أفكار جديدة وغير تقليدية، بعض الأصوات كانت معارضة بوضوح، بلا نفاق أو تدليس، تكلم بعض الشباب عن الملف الحقوقي، عن ملفات التظاهر والمحبوسين، عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وهى أصوات مطلوبة ومهمة ورسائل لابد للسلطة أن تنظر إليها بعين الاعتبار.
نهاية المؤتمر شهدت مجموعة من الوعود الرئاسية أبرزها مراجعة ملف قانون التظاهر، ومراجعة ملف المحبوسين ممن لم يصدر بشأنهم أحكام نهائية، وعود أتلقفها بحذر، فقد علمتنا التجربة مع السلطة الحالية أن ننتظر لنرى التنفيذ قبل الاحتفاء والترحيب.
***
الحوار بشكل عام مطلوب، وهو السبيل الوحيد لتجنب العنف والإرهاب والاستقطابات المجتمعية الحادة، لكن حتى تكون الحوارات مثمرة فلابد أن تكون فى سياقات مختلفة عن السياق الذي جرى، ولكن هل يعني ذلك أن كل من شارك فى هذا المؤتمر من الشباب منافقا؟
كانت هذه هى الفرضية الرئيسية لبعض المقاطعين، ومارس بعضهم -كالعادة- أسوأ أنواع الابتزاز والمزايدات فى اتجاه أى محاولة لفهم دوافع بعض الشباب للمشاركة، وفى هذا الإطار يهمنى هنا الإشارة إلى بعض الأسباب التى تدفع البعض للمشاركة ويعجز كالعادة عن فهمها بعض المعارضين فيحولون غضبهم على المشاركين معتبرين إياهم فئة واحدة دون تمييز وبشكل لا يؤدى إلا إلى مزيد من الكراهية للديمقراطية والثورة والتغيير وكل المفردات المرتبطة بالتغيير.
بالإضافة إلى الباحثين عن مكان دائما وأبدا بجانب الأضواء، فضلا عن بعض المهرجين هنا أو هناك، فهناك ثلاث فئات أخرى مختلفة شاركت فى هذا المؤتمر.
الفئة الأولى هى فئة الشباب من طلاب الجامعات أو حديثي التخرج ممن التحقوا بالجامعة بعد الثورة ورأوا صعود وهبوط المشهد المصري بكل تفاصيله المؤلمة، بعض هؤلاء من مؤيدي الثورة وبعضهم من كارهيها لا لمصالح أو امتيازات ولكن لأنهم لم يروا منها سوى عدم الاستقرار والخوف والفزع. لا يهم إن كان تلك المشاعر تم تضخيمها بواسطة الإعلام أم لا، المهم أن هذا هو ما وصل إليهم واستقر في وجدانهم! ثم هناك فئة ثالثة مرتبكة بخصوص الأمر ولا تعرف تحديدا كيف تؤسس موقفها تجاه الثورة، وهؤلاء قرروا تجاوز الأمر برمته والتطلع إلى المستقبل. ليس لدى هذه الفئة الكثير من الخبرة وبكل تأكيد حينما يتم دعوتهم إلى المشاركة فى حوار مع الرئيس والسلطة فيكون لديهم رغبه للاستطلاع والتجربة ولا يمكن لوم أيا منهم على ذلك.
أما الفئة الثانية، فهى شباب الأحزاب من السياسيين المعارضين الذين يرون أن السياسة هى عبارة عن فرص، وأن اغتنام هذه الفرص من أجل الضغط أو التشبيك أو صنع أطر ممكنة للإصلاح هو أمر يستحق بذل الوقت والجهد، يرى هؤلاء أن "نصف العمى" أفضل من كله، وأنه وفي ظل عدم توازن القوي بين المعارضة والسلطة، فإن رفض الحوار أو المشاركة يكون من قبيل الانتحار السياسي لأنه يعني انفصال تام عن كل قضايا الواقع الذي يمكن تغييره ولو بشكل تدريجي أو بطيء. بغض النظر عن أن حسابات هؤلاء قد لا تكون بالضرورة صحيحة وأن فرص الإصلاح من الداخل أو عبر الحوار تبدو في رأيي محدودة للغاية على الأقل في ظل الأوضاع الراهنة، وأن النتائج (على الأقل فيما مضى) كانت سلبية ولم تؤدِ سوى إلى المزيد من الحرق السياسي للعديد من الأوجه الجديدة، ولكن أليس من حق هؤلاء خوض التجربة وتشكيل وعي سياسي خاص بهم والذي هو خلاصة تجارب عملية يخوضونها بأنفسهم؟ أليس من حقهم أن يكون لهم حرية القرار أم أن بعض منظرى الحرية لا يرى فى الحرية سوى رأيه هو وحريته هو فقط؟.
ثم تأتي الفئة الثالثة للمشاركين من الفئات غير المسيسة في المجتمع، تلك الفئات التي تصارع من أجل أوضاع اجتماعية واقتصادية أفضل، هؤلاء لا يجدون فرصة كافية في التنظيمات السياسية القائمة معارضة كانت أم مؤيدة، يبحث بعضهم عن صرف صحى أو مياه أو عيشة آدمية فى ظل أوضاع بالغة السوء، وحينما جاءتهم الفرصة للمشاركة فإن بعضهم قد وقف ليقول مطالبه الأساسية بهذه البساطة دون تزيد أو تكلف فماذا يضير هؤلاء من المشاركة؟
***
الإصرار على عدم فهم دوافع التأييد أو المعارضة، المشاركة أو المقاطعة، التجربة والخطأ هو من علامات المراهقة السياسية والثورية، أولئك المتضخمين ذاتيا ممن يصرون على سردية واحدة ويصنعون من تلك السردية فزاعة أخلاقية لكل من يخالفها أو يحاول أن يتخذ موقف مختلف عن موقفهم، إنما يفعلون ذلك من فرط الفراغ والسطحية والفوقية والانعزال عن فهم تعقيدات الواقع.
إن مواقف بعض مطالبي التغيير ما لم تكن أكثر مرونة وبراجماتية سياسية، ما لم تؤسس على فهم الواقع، ما لم تتوقف عن ممارسة الفوقية الأخلاقية، ما لم تعتزل عالم الابتزازات والمزايدات السياسية الرخيصة فإنها ستكمل موتها البطئ وخسارتها المؤكدة ليس فقط لقضايا التغير العامة (الديمقراطية، الحرية، الحقوق..الخ)، ولكنها ستخسر حتى قدرتها على التشبيك وعلى جذب التأييد من العامة والخاصة، بل وحتى من أقرب أقربائهم الذين أصبحوا يلفظونهم ولكن أصحابنا يأبون الاعتراف.
الحوار الوطني للشباب هو فى رأيى إطار مكرر للحشد والتأييد وإيقاف نزيف خسارة السلطة لجماهيرها المؤيدة، والوعود التى خرج بها المؤتمر تظل واعدة على مستوى الصياغة، لكن لا يمكن الاحتفاء بها قبل أن تتحول إلى واقع معاش ولا تتحطم على صخور اللجان واللجان التي تنبثق عن اللجان وهكذا حتى تضيع تماما ثم يعود البعض ليحدثنا عن الظروف الاستثنائية لتبرير خلف الوعود.
***
لكن في خضم كل ذلك فللجميع الحرية في اتخاذ المواقف السياسية التي يرى أو يعتقد أنها قد تغير من ظروف معادلة القوى أو السلطة فى مصر، أقول للشباب أنتم في حل من التقيد بالسردية الثورية، أنتم في حل من التكبل بمواقف ممانعة هنا أو هناك، أنتم فى حل من الالتزام بوصايا أخلاقية أو سياسية باسم يناير أو غيرها، خوضوا تجاربكم بنفسكم وأصنعوا وعيكم وسرديتكم من تجاربكم أنتم لا من تجارب الآخرين ولا تقبلوا أبدا أن يأخذكم البعض رهائن لفشله وفشل تجربته، لكن أعلموا في النهاية أن كل موقف سياسي يقابله مسؤولية سياسية واجتماعية، وهكذا هي الحياة عموما اجتهاد وتجربة وخطأ وقبل كل ذلك مسؤولية.