هذا المقال بقلم زهرة العلا فؤاد، باحثة في الشئون الدولية، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيقة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
نُتهم نحن جيل "الشباب" حالياً بأننا نختار ألا نرى الإيجابيات في التحولات التي تمر بها مصر. وعليه، يقدم هذا المقال رؤية موضوعية تميل إلى الإيجابية في تقييم أثر التوتر الذي تشهده حالياً العلاقات بين مصر والسعودية.
وبداية، فإن هذا التوتر وما شمل عليه من موجات إعلامية عدائية ليس بجديد. إذ أن هذا النوع من التوتر سمة مستمرة في العلاقة بين البلدين، حتى في أكثر الأوقات انسجاماً بينهما. وفي كل مرة، تستدعي المقالات المصرية والسعودية روح المنافسة القديمة بين البلدين، وتستدعي معها –للأسف- رؤى غابرة تقارن بين "٧٠٠٠ سنة حضارة" و "براميل من النفط" أو بين "من يملك" و"من لا يملك". والمنافسة بشكل عام محمودة، طالما لم تتحول إلى صراع عقيم. وعلى الرغم من كمية السلبية، بل والعدوانية التي اشتمل عليها خطاب التوتر الحالي في القاهرة والرياض، إلا أن ذلك لا يمنع من أن نمعن النظر فيه لنتبين أنه قد يؤدي إلى تحولات إيجابية بالنسبة لكل من الدولتين وللعلاقات بينهما.
***
لقد كشفت التوترات الأخيرة عن بعد جديد بدأ يطغى على العلاقات بين مصر والسعودية. ويعبر هذا البعد الجديد عن الواقعية السياسية التي بدأت تفرض نفسها كإطار منظم لهذه العلاقة، كبديل أو بموازاة الإطار الأخوي المثالي التقليدي الذي كان ينظمها. إذ تشمل مفردات ومسببات التراشق بين الكتاب والمحللين والمسئولين بين الجانبين مصطلحات وأسباب "عادية" كتلك التي تشملها علاقة كل من مصر والسعودية مع الدول "الأخرى". فالعلاقة بين مصر والسعودية قد تكون في طريقها إلى التطبيع، أي إلى أن تكون كأي علاقة طبيعية مع الدول التي لا تحظى بمكانة "الشقيقة". فلم تعد الهوية والتاريخ والأخوة تمثل المرجعية في السياسة الخارجية لكل من الدولتين تجاه الأخرى، وإنما أصبحت المصالح المنفردة ثم المشتركة هي المرجع الأهم فيها. وعلى الرغم من أن هذا التطور يخرج العلاقة عن إطارها التقليدي بشكل قد يحبط بل ويصدم البعض، إلا أنه يجعل شكل العلاقة وأهدافها أكثر وضوحاً بشكل ينعكس إيجابياً على عدة مستويات.
أولاً، سوف ينعكس هذا التحول على المدى الطويل في التقليل من عنصر الشخصنة في العلاقة بين الدولتين. إن ضعف أو تكتيف المؤسسات بشكل متفاوت على كل من الجانبين يجعل العنصر الشخصي طاغي بل وحاكم في العلاقات بينهما. وقد أدى ذلك إلى تبعية العلاقات بين الدولتين من حيث نوعيتها واستقرارها لنمط العلاقات الشخصية بين القيادات في كل منهما. ويؤيد هذه الشخصنة الرؤية الأخوية لهذه العلاقة كعلاقة بين أفراد لعائلة واحدة بشكل يجعلها أعمق وأهم من أن تحتويها المؤسسات والأطر الرسمية للعلاقات الدولية. ولذلك قد يكون من الصحي إعادة وضع العلاقات في إطار جديد يقوم على تبادل المصالح بين طرفين اختار كل منهما إقامة علاقة مع الآخر لأنه يحتاج إليه. إن مثل هذا الإطار الجديد قد يوفر الاستمرارية والاستقرار لهذه العلاقة الثنائية، حتى وإن تغير القادة أو اختلفت شخوصهم وطبائعهم وميولهم. إذ أن إطار المصلحة يجعل أهداف وحدود العلاقة بل ومساحات الاختلاف التي قد تولد التوتر واضحة منذ البداية، بحيث يمكن تفاديها أو إدارتها أو حلها دون أن يفاجأ طرف بقرارات الآخر. بمعنى آخر، يقلل إطار المصلحة من عنصر "العشم" الذي قد يولد أمالاً غير مستندة إلى اتفاقات صريحة بين دولتين، أو الذي يولد رد فعل مبالغ فيه تجاه خلافات هي في جوهرها اختلافات سياسية عادية بين أطراف العلاقات الدولية.
ثانياً، إن خروج العلاقة بين القاهرة والرياض عن الإطار القيمي الذي يقوم على الهوية والتاريخ إلى إطار المصلحة يساعد على عدم الاعتماد على ديمومة التحالف بينهما، ويشجع الدبلوماسيتان المصرية والسعودية على أن تكونا أكثر نشاطاً وإبداعاً في البحث عن علاقات خارجية متنوعة مع أطراف متعددة. ذلك أن التعويل في العلاقات الخارجية على أواصر الهوية والتاريخ يحد من خيال متخذ القرار، ويجعله يرغب في التصديق والاعتماد على ديمومتها ما دامت الهوية عربية وإسلامية لكلا الجانبين. إن وضوح المصلحة السعودية من العلاقات مع مصر، والمصلحة المصرية من العلاقات مع السعودية سينعكس على إيجاد تعريف واضح لحدود ما يمكن أن يحققه تحالفهما، ويجعل القيادات في كلتا الدولتين تفكر في شبكة تحالفات مكملة لتحالفهما الثنائي، أو حتى تحالفات بديلة تمثل شبكة الأمان في حال ما انفرط عقد تحالفهما.
ثالثاً، ساعدت التوترات الأخيرة بين البلدين على تغيير صورة كل منهما لدى الآخر، بما يخدم السياسة الخارجية بل والداخلية لكلاهما. لا شك إطلاقاً أنه ليس من مصلحة مصر أن تلتصق بها صورة التابع المضطر لمساندة السياسات الخارجية للدول المانحة، وهي الصورة التي يستخدمها المعارضون والمنافسون المحليين والإقليميين والدوليين. لذلك فإنه من الجيد نفيها بالأفعال وليس فقط بالأقوال. أما من جانب المملكة، فلا شك أن السعودية حكومةً وشعباً سئمت الصورة التي تختزلها في ثري عربي صامت، يستمر حلفائه في دعمه طالما استمر تمويله لهم. ففي إطار الصراع الحالي مع إيران، تراخي التحالف مع مع الولايات المتحدة، يكون من الإيجابي بالنسبة للرياض أن توضح أنها لا تشتري حلفائها بالمال ولا تطلب منهم مجرد البروباجندا على مستوى الخطاب، وإنما تقيم معهم علاقات على أساس تبادل المصالح بشكل يجعل تحالفاتها مستمرة باستمرار هذه المصالح، حتي وإن انقطع التمويل. كما أن التوتر مع مصر يوضح ثبات المملكة على مواقفها من القضايا الإقليمية، حتى وإن كلفها ذلك مراجعة تحالفاتها. أضف إلى ذلك أن هذا التوتر مع مصر يخدم المملكة داخلياً في وقت هي الأكثر احتياجاً لتمويل عجز تاريخي في موازنة الدولة، بدلاً من صرفه على حلفائها الإقليميين.
أما على المستوى الشعبي، فإن تغير الصورة النمطية للمواطن المصري لدى المواطن السعودي، والصورة النمطية للمواطن السعودي لدى المواطن المصري تجعل العلاقات أكثر صحية وتحضراً بين الشعبين.
رابعاً، لا شك أن هناك حساسية مصرية من النشاط السعودي في المجال العام داخل مصر. ولا شك أن تراجع خصوصية العلاقة بين الدولتين يرفع عن الدولة المصرية الحرج ويسمح لها –إن أرادت- التحقيق أو التحفظ على التسريبات التي تخص علاقة السفارة السعودية في مصر بالإعلام المصري، أو الاتهامات التي تخص مساندة المملكة للحركات السلفية والإسلام المتشدد في مصر. فمن المعروف لكل مهتم بالشأن السعودي أن المملكة حساسة جداً تجاه تناول شئونها في الإعلام على مستوى العالم، مما قد يمثل ضغطاً على حكومات الدول الصديقة من أجل الرقابة على تناول الإعلام المحلي فيها للشأن السعودي، خاصةً الشأن الداخلي. وسواءً كان ما يتم تناقله عن نشاط المملكة فيما يخص الإعلام والحركات الإسلامية دقيقاً أو غير دقيق، فإنه من مصلحة الدولة المصرية ألا تتحمل مسئولية غض الطرف فيما يخص الموضوعين. أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فقد تسمح المسافة الصحية مع النظام المصري بحرية أكبر في دفاع المملكة عن نفسها ضد اتهامات التدخل في السياسة الداخلية والشأن الديني في مصر.
***
ليس من مصلحة مصر ولا السعودية تصعيد التوتر بينهما، كما لا يجب ولا يمكن أبداً محو أثر الهوية والتاريخ والعلاقات الإنسانية بين الشعبين على العلاقات بين الدولتين، ولكن ما يتوجب عمله هو التوقف عن اعتماد هذه العناصر كإطار حاكم لعلاقات بين دول ذات سيادة، بدلاً من إطار المؤسسات والمصالح المشتركة التي تتساوى فيها مكاسب الطرفين. فمصر والسعودية شقيقتان، ولكن –بحسب المقولة المصرية- حتى الإخوة يتحاسبون.