هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
خلال أيام، انتقل مجلس النواب من الموافقة المبدئية إلى الموافقة النهائية على مشروع قانون الجمعيات الأهلية الذي قدمه برلماني وأدخل عليه مجلس الدولة تعديلات محدودة ولم يحظ بنقاش تفصيلي داخل أروقة المجلس. حدث ذلك، رغم الطبيعة غير الديمقراطية الصريحة للقانون ومن عاصفة الانتقادات المشروعة التي واجهت بها جمعيات أهلية كثيرة القانون في صيغتيه المبدئية والنهائية. حدث ذلك، ليؤكد مجدداً دور البرلمان في تمكين السلطوية الحاكمة في مصر من القضاء الفعلي على حرية التنظيم التي يكفلها الدستور واستكمال حلقات حصار المجتمع المدني وتعقب المنشغلين بالعمل الأهلي وإغلاق الفضاء العام وإهدار الحريات العامة.
يقر القانون في المادة 2 حق تأسيس الجمعيات الأهلية بموجب إخطار يقدم للوزارة المختصة، غير أنه يعود في المادة 9 ويلغيه عملا بإعطاء الوزارة صلاحية رفض التأسيس دون الاحتكام المسبق إلى الجهات القضائية المختصة (محكمة القضاء الإداري). بل إن المادة 9 تعدد أسباب رفض التأسيس على نحو يمزج بين إشارات لأسباب فنية كعدم استيفاء بيانات وملحقات الإخطار وبين النص على أسباب فضفاضة كأن يكون من بين أغراض الجمعيات "نشاطا محظوراً أو آثماً" وفق قانون العقوبات أو أي قانون آخر.
في مادتيه 13 و14، يتجاوز القانون النص الحظر التقليدي الذي يرتبط بممارسة الجمعيات الأهلية لنشاط يدخل في نطاق عمل الأحزاب السياسية (كاجتذاب مواطنين للانضمام إلى أحزاب بعينها أو الدفع بمرشحين في الانتخابات أو تنظيم وإدارة حملات الدعاية الانتخابية) إلى مستويين إضافيين من الحظر يتصل إحداهما بعمل الجمعيات في مجالات "تدخل في نطاق النقابات المهنية أو العمالية" بينما يرتبط الآخر بمجالات توصف كـ"ضارة" بالبلاد.
دون لبس، يستهدف الفصل بين الجمعيات وبين النقابات المهنية والعمالية تصفية الحاضنة الأهلية الداعمة لحقوق وحريات أعضاء النقابات وللحراك النقابي بحيث يترك عمال كعمال الترسانة البحرية بالإسكندرية المحالين حاليا إلى القضاء العسكري وعمال النقل العام المحالين حاليا أيضا إلى نيابة أمن الدولة العليا دون دعم حقوقي تقدمه لهم جمعيات أهلية مسجلة رسميا، وبحيث يجرم التضامن الأهلي مع مقاومة نقابات كنقابة الأطباء ونقابة الصحفيين لقبضة السلطوية الحاكمة، وبحيث تقوض فرص كيانات تنشط للدفاع عن النقابات كالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ودار الخدمات النقابية والعمالية للتسجيل كجمعيات أهلية ويظل سيف التعقب والعقاب معلق على الرقاب. دون لبس أيضا، ليس للنص على حظر نشاط الجمعيات في المجالات الضارة "بالأمن القومي والنظام العام والآداب العامة والصحة العامة" مع امتناع القانون من جهة عن تقديم تعريف موضوعي ومنضبط لتلك المجالات وإدراجه من جهة أخرى للمفاهيم المطاطية المعتادة في قوانين السلطوية المصرية كالأمن والنظام والآداب دون تحديد دقيق للمضامين المرتبطة بها، ليس له من هدف سوى إخضاع المنشغلين بالعمل الأهلي لتهديدات دائمة من قبل السلطات بالتجريم والحظر والعقاب.
بعد ذلك، تتوالى مواد قانون الجمعيات الأهلية الجديد (يتكون القانون من 89 مادة يسبقهم ثماني مواد تمهيدية وانتقالية) مدفوعة بإرادة سلطوية صريحة للقضاء على حرية التنظيم والسيطرة الأمنية على الجمعيات وإحكام حصار المجتمع المدني إلى حدود إلغاء الوجود. يبتدع القانون جهة حكومية جديدة يسميها "الجهاز القومي لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية" (المواد من 70 إلى 77) ويضع به ممثلين لوزارات أبرزها الخارجية والدفاع والعدل والداخلية والوزارة المختصة ولمؤسسات أبرزها المخابرات العامة والبنك المركزي وهيئة الرقابة الإدارية. على الرغم من أن مسمى الجهاز يوحي باقتصار دوره على ما يتعلق بالمنظمات الأجنبية غير الحكومية، إلا أن تحديد القانون لاختصاصاته وصلاحياته يجعل منه الجهة الحكومية الأهم في إدارة شؤون الجمعيات وعموم العمل الأهلي.
فالجهاز المشكل بحضور أمني مكثف بين لا يختص فقط بالموافقة على التأسيس أو التصريح للمنظمات الأجنبية غير الحكومية بممارسة النشاط في مصر، وبمراقبتها وبالتمديد الزمني لتصاريحها أو إلغائها، وبالتصريح لها بإرسال ونقل وتحويل أموال وتبرعات إلى أشخاص وجمعيات في الداخل والخارج، وبالتصريح للمصريين وللجمعيات الأهلية المصرية بالحصول على أموال وتبرعات من الخارج. بل تمتد اختصاصاته وصلاحياته إلى مجالات لا تتعلق بالمنظمات الأجنبية غير الحكومية أو بالتعاون بينها وبين جمعيات مصرية، وعلى نحو يشرعن قانونا للسيطرة الأمنية والاستخباراتية المباشرة على الجمعيات ويحد كثيرا من دور الوزارة المختصة التي لم تكن في الماضي البعيد والقريب تدير شؤون الجمعيات بمعزل عن "التوجيهات" الأمنية.
"فالجهاز"، من بين أمور أخرى عديدة، يخطر من قبل الوزارة بطلبات الجمعيات للحصول على تبرعات من مصريين، ويؤخذ "رأيه" بشأن تلقي الأموال والتبرعات من أجانب وهيئات أجنبية من داخل البلاد أو من مصريين وأجانب من خارج البلاد قبل تلقيها - أي له حق الرفض المسبق، ويستطيع الاعتراض لاحقا اللاحق على التصريح بالحصول على أموال وتبرعات – أي له حق الرفض اللاحق (المادة 24). "والجهاز" يكلف "بالتأكد من إنفاق" أموال الجمعيات الأهلية المصرية في الأغراض المخصصة لها وله حق الاطلاع على حساباتها البنكية (المادة 71)، علما بأن القانون يخضع الجمعيات لرقابة شاملة من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات (المادة 15).
بهذه الاختصاصات والصلاحيات يصبح "الجهاز" وحشا حكوميا إضافيا حتما سيخيف المواطن المصري من التبرع للجمعيات الأهلية المصرية لكيلا يتحول إلى اسم يراقب أمنيا واستخباراتيا، وسيقلل بالتبعية من الأموال المتاحة لجمعيات تضطلع بأنشطة خيرية واقتصادية واجتماعية وتنموية يحتاجها المجتمع بفداحة. يصنع القانون من "الجهاز" وحشا إضافيا يهدد الجمعيات الأهلية المصرية بالتعقب والتجريم والعقاب في كافة سياقات وجودها تأسيسا وتسجيلا وممارسة للنشاط وجمعا شرعيا للأموال والتبرعات وإنفاقا لها، ما لم تمتثل هي أيضا "للتوجيهات" الأمنية، ويقضي من ثم على حرية التنظيم للمصريين ويهدد بقاء العمل الأهلي كركيزة أساسية لاستقرار وأمن المجتمع بمضامين الاستقرار والأمن الحقيقية. يصير الجهاز وحشا حكوميا إضافيا سينهي حضور العدد القليل المتبقي من منظمات أجنبية غير حكومية ويجمد ما استمر من علاقات تعاون بينها وبين الجمعيات الأهلية المصرية بخلط فادح بين أعمال الرقابة المشروعة للحكومة المصرية على المنظمات الأجنبية وتعاونها مع جمعيات وطنية (حق سيادي) وبين الحصار الأمني والإداري للمنظمات الأجنبية والنظر إليها كجهات تتعمد الإضرار بمصالح البلاد وتمارس التمويل غير الشرعي واعتبار الجمعيات الوطنية المتعاونة معها كيانات هدامة وإجرامية. والنتيجة الكارثية هنا هي عزل الجمعيات المصرية عن نظيراتها الأجنبية، واستمرار إحكام الحصار على المجتمع المدني المصري الذي تهاجمه السلطوية الحاكمة بشراسة.
ثم تأتي المواد الأخيرة من قانون الجمعيات الأهلية الجديد (المواد من 86 إلى 89) لتتوسع في إدخال العقوبات السالبة للحرية وتصطنع منها ومن عقوبات إدارية ومالية كثيرة منظومة متكاملة لترهيب الناس من مجرد الاقتراب من الجمعيات الأهلية وتجريد المنشغلين بالعمل الأهلي من ممارسة حقهم المكفول دستوريا في حرية التنظيم دون قمع ومواصلة الإهدار الممنهج للحريات العامة التي تمعن قوانين ما بين 2013 و2016 في إهدارها والعصف بها.