مقال بقلم شمس الدين النقاز، صحفي وباحث في الجماعات الإسلامية. المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- مع كل عملية إرهابية جديدة تهز العالم، يحبس التونسيون أنفاسهم ممنّين النفس بأن لا يكون المنفذ تونسيا، بعد أن اشتهرت بلادهم خلال السنوات الأخيرة بأنها المصدّر الأول للجهاديين عالميّا إلى بؤر التوتر.
فبعد تورط الشاب التونسي محمد لحويج بوهلال، في تنفيذ هجوم نيس والذي خلّف عشرات القتلى والجرحى وسط شهر يوليو الماضي، أعاد ابن بلده أنيس العامري الكرة هذه المرة بنفس الطريقة لكن في مدينة أوروبية أخرى كان عنوانها برلين الألمانية.
المنفذان التونسيان، اشتركا في طريقة القتل عبر دهس مدنيين بشاحنات ثقيلة وسط الساحات العامة، كما جمعتهما بيعة لزعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبي بكر البغدادي، وفق ما أوردت الآلة الإعلامية للتنظيم، ناهيك عن تقضية سنوات المراهقة في بلدهما تونس.
فبعد أن شاهد العالم صور الضحايا في الهجومين الداميين، أصبحت وسائل الإعلام الغربية تتساءل عن الأسباب والدوافع التي جعلت شبابا تونسيا في مقتبل العمر يقبل أن يصبح "ذئابا منفردة" ومقاتلين في صفوف الجماعات الجهادية، رغم ما عرفت به بلادهم بحبها للحياة ونبذها لمظاهر التديّن التي جفّفتها الأنظمة السابقة.
في حقيقة الأمر، ورغم أن السؤال مشروع، إلا أن الإجابة عنه تبدو إلى حد الساعة غير واضحة وربما غائبة لدى السلطات التونسية ومحلليها وخبرائها ومستشاريها، الذين لم يحاولوا إلى الآن، إيجاد تفسير مقنع للسائلين عن الدوافع التي تحرّك هذا الغول الذي يهدّد العالم في كل لحظة.
إن هؤلاء المسؤولين العاجزين عن إيجاد تفسير مقنع لسؤال "لماذا يتحول عدد كبير من التونسيين إلى قنابل موقوتة جاهزة للانفجار في أي وقت؟"، ربما يعلمون في سرّهم جزءا من الإجابة ولكنهم يخشون البوح بها خوفا من توريط أنفسهم قبل غيرهم، فهم يتحمّلون جزءا من المسؤولية بلا شكّ، لهذا يبدو لزاما علينا اليوم أن ندلو بدلونا حول هذا الموضوع الذي شغل بال الكثيرين، لأننا لمسنا تساؤلا مشروعا وإجابات مضلّلة يحاول أصحابها بين الفينة والأخرى الابتعاد بالموضوع إلى طريق غير طريقه عسى أن تمرّ العاصفة دون مشاكل.
عندما يتساءل باحثون ومحللون كبار عن الأسباب التي تدفع شابا يافعا في مقتبل العمر إلى تنفيذ عملية إرهابية داخل بلده أو خارجها، يتناسى كثيرون أن اليأس وفقدان الأمل والشعور بالظلم والقهر في هذه الفترة الحساسة من عمر الإنسان، والتي يجمع الأخصائيون في علم الاجتماع أنها المكونة لشخصيته المستقبلية، هي إحدى أهم الأسباب الرئيسية وراء ذلك. فتونس التي أضحت موضوعا رئيسيا في تغطية وسائل الإعلام الأجنبية خلال الأيام الأخيرة، ورغم صغر حجمها وقلة عدد سكانها، إلا أنها المصدّر الأساسي للمقاتلين إلى بؤر التوتّر، حيث بلغ عدد التونسيين وفق إحصائيات الأمم المتحدة أكثر من 5500، في حين قالت وزارة الداخلية التونسية إن العدد يتراوح بين 2800 و3000 وهو ما أكده الرئيس الباجي قائد السبسي في لقاء إعلامي.
ليس هذا فحسب ما يهمنا، فما أكده كاتب الدولة الأسبق لدى وزير الداخلية المكلف بالشؤون الأمنية رفيق الشلي خلال ندوة صحفية أواسط أبريل 2015، أن عدد التونسيين الذين تم منعهم من التوجه نحو سوريا وتركيا بلغ 12000 شخص، هو إعلان صريح عن وصول الأوضاع داخل البلاد إلى طريق مسدود لم يسع أي مسؤول على إيجاد حل ولو وقتي، لفتحه.
عند محاولة تفكيك دماغ أحد هؤلاء الممنوعين من الالتحاق ببؤر التوتر للقتال رفقة "إخوانهم"، سنجد كمّا كبيرا من الحقد على النظام السياسي والجهاز الأمني والواقع المعيشي والاجتماعي المتردّي، فلا أحد ينكر أن هؤلاء الممنوعين من السفر، قد وصلوا إلى درجة من الاقتناع الفكري والعقائدي دفعتهم إلى مغادرة البلاد و"الموت في سبيل الله" وفق تصوّرهم.
فبعد نحو 6 سنوات من الانتفاضة السلمية التي أطاحت بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ذات شتاء 2011، لم يحقق الشباب التونسي أهدافه في العيش الكريم ماديا ومعنويا، فالانتهاكات التي خال أنها انتهت عادت في ثوب جديد، والأوضاع الاجتماعية من سيء إلى أسوأ وفق ما تدل على ذلك المؤشرات ويؤكد ذلك خبراء وعلماء اجتماع.
ليس هذا فحسب، فعندما تصبح سياسة الدولة باسم محاربة الإرهاب، إرهاب الشعب بكل أطيافه والتنكيل بالنساء والرجال والشيب والشباب وفق ما تكشفه تقارير حقوقية تصدر دوريا عن منظمات محلية ودولية، تكون بذلك الدولة قد خلقت عشرات الإرهابيين الجدد، فالمواطن البسيط الذي نُكّل بابنه واقتحم منزله في أنصاف الليالي ودخلوا على غرفة نومه وأفزعوا زوجته وأبناؤه وسط السب والشتم والضرب وتحت تهديد الأسلحة، من أجل اعتقال مشتبه به، لن يكون في صفّ الدولة في محاربة الإرهاب بل سيكون على الأقل محايدا هذا إن لم يكن أحد الداعين إلى إسقاط الدولة التي أرعبت أهله.
من المؤسف القول، إن المعالجة الأمنية التي تنتهجها السلطات الأمنية ضد فئات مختلفة من التونسيين طيلة عقود منة الزمن، كانت إحدى الأسباب الرئيسية في صناعة آلاف الإرهابيين داخل البلاد وخارجها، كما أن سياسات التهميش والإقصاء وتجفيف المنابع المتواصلة إلى الآن، هي الأخرى زادت الطين بلّة والمريض علّة رغم كل التحذيرات التي وجّهت للحكومات المتعاقبة من جهات عدّة.
على صعيد آخر، تشكّل العقيدة الجهادية التي استقاها كثير من الشباب التونسي من الكتب والواقع الذي تمر به المنطقة، المحرّك الأساسي لأن يصبح "جهاديّا" مستعدّا لتفجير نفسه متى ما طلب منه ذلك، طامعا بذلك العمل في "رضاء الله" و"الفوز بالجنة" و"إعلاء كلمة لا إله إلا الله"، وفي هذه النقطة بالذات، تميّزت الحكومات التونسية المتعاقبة بعد 14 يناير بجهلها الكبير بأصول معتقد "الجهاديين" وتفكيك شيفرات دعايتهم والعمل على خلق دعاية مضادّة، رغم النجاح النسبي لحكومة "الترويكا"، في خلق توازن على المشهد الديني في البلاد من خلال استضافة عدد من الدعاة الخليجيين والمصريين القريبين من السلطة، لتقديم دروس دعوية داخل المساجد في مناسبات مختلفة، وهو ما خلق موجة من التشنّج في صفوف التيار السلفي الجهادي في تلك الفترة.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر، حذّرت جماعة أنصار الشريعة أنصارها من حضور محاضرات الداعية المصري محمد حسان في شهر مايو 2013، حيث وصفت ذلك بالأمر "المحرّم شرعا"، مشيرة في نفس الوقت إلى أن الصلاة وراءه باطلة، كما لمّحت بتكفيره، بسبب بعض فتاواه المتعلّقة بالانتخابات وعلاقة المسلم بالمسيحي وموقفه من بناء الكنائس.
في تلك الفترة حقق المستضيفون لمحمد حسان أهدافهم وبدأت الخلافات تعصف بأنصار الشريعة، خاصة وأن كثيرين من أنصارها لم يستجيبوا لبيانها الذي اعتبرت تأخيره "عن وقت الحاجة محرما شرعا"، كما ساهمت الحملة المضادّة التي شنّها الدعاة المحسوبون على حركة النهضة في تلك الفترة على غرار بشير بن حسن ورضا الجوادي، في تنفير الرأي العام من "الجهاديين" ومن فتاواهم "التكفيرية."
في نهاية المطاف، يبقى الموضوع هاما ومتشعّبا جدّا لا يمكن الغوص في خفاياه وأسراره بإطناب في مقال عابر، وربما يكون للحديث بقيّة في مناسبة أخرى.