هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
لا يختلف سلوك السلطة التنفيذية في مصر فى الوقت الحاضر تجاه مؤسسات الدولة والمجتمع الرئيسية عما جرى في عهود سابقة، فقد سعت كل نظم الحكم في مصر لتطويع كل مؤسسات الدولة والمجتمع لإرادتها بدءا بالدستور ومرورا بالسلطة التشريعية والقضاء والإعلام ومنظمات المجتمع المدني، ولكن الفارق الرئيسي بين ما فعلته السلطة التنفيذية في مصر بعد 3 يوليو 2013 هو أسلوب التطويع وسرعته. كان الأسلوب المتبع في السابق هو الإحتواء من خلال التنظيم السياسى الواحد أو المسيطر، واستخدام القانون عندما يتعذر ذلك، أو اللجوء إلى القمع عندما تصل العلاقة بين السلطة التنفيذية وإحدى هذه المؤسسات إلى حد المواجهة. ولم تتحقق مثل هذه السيطرة على كل هذه المؤسسات لعبد الناصر إلا بعد سنوات طويلة، نجح من خلال الأسلوب المعروف بحرب المواقع في تسخيرها لإرادته واحدة بعد أخرى، بل جاء الصدام مع المؤسسة القضائية في أعوامه الأخيرة، وعندما ضاق السادات ذرعا بمؤسسات الأحزاب السياسية والإعلام والجامعة في سنته الأخيرة، انتهى الأمر به إلى وضع قادتها والمتمردين فيها في السجون أو نقلهم إلى وظائف أخرى في الشهر الذى سبق اغتياله في استعراض عسكرى في 6 أكتوبر 1981.
وفي حالة مبارك يمكن القول أنه قبل التعايش على مضض مع قدر من الاستقلال للمؤسستين القضائية والإعلامية اللتين ترك لهما هامشا من الحرية لم يكن يتصور أنه يمكن أن يمثل تهديدا لنظام حكمه. ولكن المدهش حقيقة سرعة سعي السلطة التنفيذية لإخضاع كافة مؤسسات الدولة والمجتمع لإرادة واحدة باستخدام القانون وخلال مدى زمني قصير لا يكاد يتجاوز ثلاث سنوات وبأسلوب هو أقرب إلى الحرب الخاطفة.
لقد انتهت محاولات التطويع خلال العهود الثلاث السابقة بظهور علامات التمرد داخل المؤسسات التى بذلت السلطة التنفيذية كل الجهود من أجل تطويعها، وكان ظهور التمرد هو النذير بقرب نهاية كل عهد، فهل ينجح العهد الحالي فيما أخفقت فيه العهود السابقة؟ وما هو الثمن الذى تدفعه مصر، مجتمعا ودولة على طريق تطورها السياسي والاقتصادى والاجتماعى كنتيجة لمحاولات الإخضاع هذه؟
***
وحتي لا يبدو للقارئ الحصيف أن المقال يسبح في الخيال، فالتذكرة بسعي السلطة التنفيذية الدؤوب لإخضاع كافة مؤسسات الدولة والمجتمع لإرادة واحدة هى أمر واجب. كانت البداية بالجامعات، فبعد أن نجح الجامعيون في السنة الأولي للثورة بالحصول على تعديل لقانون الجامعات جعل اختيار القيادات الجامعية على كل المستويات من عمداء الكليات إلى رؤساء الجامعات بالانتخاب، كان إلغاء هذا التعديل واحدا من الإجراءات الأولي التى اتخذتها الحكومة على عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور، ولم يكن هناك من مبرر لهذا الإجراء، فلم يؤد الأخذ بالانتخاب إلى تولي قيادات من الإخوان المسلمين رئاسة الجامعات، وبدلا من العودة إلى النظام الذى كان معمولا به قبل هذا التعديل، وهو اختيار رئيس الجمهورية لرؤساء الجامعات، واختيار رؤساء الجامعات لعمداء الكليات امتدت سلطة رئيس الجمهورية إلى تعيين عمداء الكليات، وهو ما ترتب عليه بقاء كليات وجامعات بدون قيادات معينة من رئيس الجمهورية شهورا طويلة تجاوزت السنة فى أحيان كثيرة. وكان الدستور هو الضحية الثانية، فجرى توسيع سلطات رئيس الجمهورية في مواجهة الحكومة في دستور 2014، وانتهى الأمر بتجاهل الدستور ووضعه على الرف بعد ذلك، والأمثلة على ذلك عديدة بدء من الشروع في بناء عاصمة جديدة على الرغم من نص الدستور أن القاهرة هى عاصمة البلاد، إلى ما يجرى في الوقت الحاضر من إحالة الحكومة اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية إلى مجلس النواب بعد أن ألغت محكمة القضاء الإدارى صحة توقيع رئيس الوزراء على هذه الاتفاقية، وقبل إصدار المحكمة الإدارية العليا حكمها في طعن هيئة القضاء الإداري على هذا الحكم، وهو ما يخالف نصوص الدستور وأبجديات علم القانون.
وكان مجلس النواب هو الضحية الثالثة بعد تدخل أجهزة الأمن في اختيار مرشحيه وفقا لما ذكره تفصيلا واحد ممن دعتهم إحدى هذه الأجهزة لحضور اجتماع لتنسيق الحملة الانتخابية، وتدخل أجهزة في السلطة التنفيذية باقتراح قانون للجمعيات الأهلية من خلال أصدقائها في مجلس النواب دون انتظار مشروع القانون الذى كانت الحكومة من خلال وزارة التضامن الاجتماعى قد أعدته بالتشاور مع ممثلين لهذه الجمعيات. وكانت الضحية الرابعة هي منظمات المجتمع المدني والتى وضعها القانون المذكور محل شبهة من أجهزة الأمن والتى أوكل لها مهمة مراقبة هذه المنظمات. وكانت الصحافة هى الضحية الخامسة بعد أن وافق مجلس النواب على قانون للهيئات الإعلامية يجعل الغلبة في المجالس التى تعين رؤساءها لمن تختارهم السلطة التنفيذية وتجعل اختبار رؤساء هذه المجالس بيد رئيس الجمهورية.
آخر هذه الضحايا هو السلطة القضائية، والتي سعي بعض نواب المجلس التشريعي لتقديم مشروع قانون يجعل اختيار رؤساء الهيئات القضائية من محكمة النقض إلى مجلس الدولة إلى هيئة النيابة الإدارية سلطة جديدة لرئيس الجمهورية الذى يعين واحدا من الثلاثة الذين ترشحهم الجمعية العمومية لكل من هذه الهيئات، وذلك بعد أن كان منصب الرئيس يتم شغله وفقا لقاعدة الأقدمية المطلقة، وهو مشروع القانون الذى رفضته الهيئات الثلاث، والذى يتضمن في حالة إقراره إهدارا لمبدأ الفصل بين السلطات الذى يكرسه الدستور.
***
خسارتنا كوطن كبيرة بهذه الحرب الخاطفة على مؤسسات الدولة والمجتمع. حلمنا بأن تكون مصر دولة مؤسسات تبدده جهود السلطة التنفيذية الحثيثة لإخضاع كل هذه المؤسسات لمشيئتها. وليس مقنعا القول أن سلطة رئيس الجمهورية ستتوقف عند تعيين رؤساء بعض هذه المؤسسات، لأن التعيين هو الوسيلة لضمان إنفاذ إرادة من يقوم بالتعيين في شئون هذه المؤسسات. صحيح أن من أطلق الدعوة لأن تكون مصر دولة مؤسسات، هو الرئيس الراحل أنور السادات وهو أول من دق المسامير في نعش هذه المؤسسات، فحل مجلس الشعب بعد عامين من انتخابه وقبل أن يكمل مدته الدستورية لأن ثلاثة عشر نائب فقط من بين ثلاثمائة وستين، أى أقل من 4% من أعضائه، رفضوا معاهدة الصلح التى كان قد أبرمها مع إسرائيل، فعقد العزم على حل المجلس الشعب، وتنظيم انتخابات جديدة بذلت فيها أجهزة السلطة التنفيذية قصارى جهودها حتي لا يفوز فيها واحد من هؤلاء النواب الثلاث عشر، وهو ما نجحت فيه باستثناء اثنين عادا بإرادة المواطنين الذين حموا صناديق انتخاب واحد منهما بالسلاح، وبالتهديد بمظاهرات عارمة لو زورت نتيجة الانتخابات في حالة المرشح الآخر. ومع ذلك يبقي حلم دولة المؤسسات باقيا لأنه يعني ألا تسير الدولة وفقا لمشيئة وإرادة فرد واحد أو مجموعة من الأفراد يتوقف مسار الدولة ومصيرها على ما يرونه لها، وذلك في وقت لم تعد شئون الحكم فيه بالبساطة التي تجعل من المتصور أن يحتكر شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص الحكمة والمعرفة بها في كل المجالات من اقتصاد واجتماع وتعليم وثقافة وعلم وزراعة وصناعة وتخطيط إقليمى وعمراني وسياسة داخلية وسياسة خارجية وبدون رقيب ولا حسيب ولا تواصل مع الرأى العام ولا مناقشة مع خبراء في أجهزة الدولة والمجتمع المختلفة وبادعاء العلم بأمور هي في صميم عمل كل من هذه الأجهزة.
لقد عرَّف أحد الفلاسفة الديمقراطية بأنها الحكم بالمناقشة. ما تفقده مصر في غياب دولة المؤسسات ليس فقط الديمقراطية، ولكن أيضا الحكم الرشيد الذى يقوم على أسس عديدة منها الشفافية والمساءلة ومشاركة المواطنين في الشأن العام.
والخاسر الثاني بغياب دولة المؤسسات هو السلطة التنفيذية ذاتها. من الثابت على امتداد تاريخ الإنسانية هو أنه لا يوجد فرد ولا مجموعة محدودة من الأفراد يحتكرون المعرفة. الرسول محمد عليه الصلاة والسلام هو من قال لصحابته "أنتم أعلم بشئون دنياكم"، وجاء في سورة يوسف في القرآن الكريم "وفوق كل ذى علم عليم". التحكم في اختيار قيادات مؤسسات الصحافة والإعلام والقضاء والجامعات هو مجرد مقدمة لتسيير هذه المؤسسات وفق إرادة ومشيئة من يتولي اختيار هذه القيادات وما يتوافر له من معلومات. وفي حالة القضاء مثلا لا يقتصر الأمر على الرغبة في اختيار قادة المؤسسات القضائية، ولكن سن تشريعات جديدة تتعلق بإجراءات التقاضي دون التشاور مع رجال القضاء أنفسهم، وفي حالة الإعلام فنحن جميعا نشهد كيف تردى حال الإعلام في مصر بعد أن تدخلت في توجيهه وإدارته أجهزة في الدولة بعيدة عن مجال الإعلام. وهكذا فلن تؤدى هذه الحرب على مؤسسات الدولة والمجتمع إلا إلى سيادة الصوت الواحد وصداه، فيفتقد من يتولي السلطة التنفيذية المعلومات الصحيحة، فعندما يصبح هو الذى يعين رؤساء كل هذه المؤسسات ويتحكم في أمورها، فلن ينقل له من يديرون هذه المؤسسات إلا ما يحب هو سماعه، ومن ثم تقوم خياراته وقراراته علي معلومات ومشورة منبتة الصلة بالواقع، ويتحمل المجتمع ثمن قرارته المبنية على مثل هذه المعلومات.
قضية المؤسسات هذه لم تكن فقط شعارا رفعه الرئيس الراحل أنور السادات، ولكنها كانت قضية شغلت علماء السياسة والاقتصاد، فالمأسسة هى أحد معايير التطور السياسي، ووجود المؤسسات الصديقة للتنمية هو شرط للتنمية الاقتصادية الصحيحة. وقد أسهب علماء السياسة في شرح شروط المأسسة، أو ما تسميه هذه المقالة دولة المؤسسات. أحد شروط قيام هذه الدولة هو استقلال هذه المؤسسات في عملها، ليس لأن هذا الاستقلال يمكنها من تحدى الحاكم، ولكن لأنه الشرط الضرورى لنجاحها في أداء عملها. وقديما قال الحكماء المسلمون "أهل مكة أدرى بشعابها" ويقول أهلنا المصريون" إدى العيش لخبازه". السلطة التنفيذية في مصر في الوقت الحاضر تتصرف كما لو أنها الوحيد فى الوطن الذى يعرف كيف يعد كل أنواع المخبوزات. هذا ضد طبيعة الأشياء.