أحمد عبدربه يكتب: تحرر "الوطنية" المصرية بعد أن كانت مختطفة بواسطة السلطة ومن مثّلها

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
تقرير أحمد عبد ربه
أحمد عبدربه يكتب: تحرر "الوطنية" المصرية بعد أن كانت مختطفة بواسطة السلطة ومن مثّلها
Credit: MOHAMED EL-SHAHED/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي CNN.

كان هذا الأسبوع باعثا على الأمل والتفاؤل! لم يكن الأمر متعلقا فقط بالحكم القضائي الخاص بالجزيرتين المصريتين تيران وصنافير، ولكن بالطريقة والكفاح الحقيقى الذي يقف خلفه الفريق الذي تمكن من الحصول على هذا الحكم مختصما السلطة التنفيذية في قضية وطنية أمام المحاكم المصرية استمرت لشهور عبر مراحل مختلفة للتقاضى.

لا أريد أن أفرط فى الأمل، فقد تعلمنا كثيرا من تجربة السنوات السابقة أن تحجيم التوقعات والأحلام قد يكون أكثر إفادة للصحة النفسية والعقلية من الإغراق فى الآمال والاحتفالات ثم الاستيقاظ على ضربات الواقع المؤلم. ورغم ذلك فلا معني أيضا للعدمية في التعامل مع ما حدث. فالحملة المصرية للدفاع عن تيران وصنافير وما انتهت إليه من نتيجة نطقها القاضى وأودعها بين سطور حكمه الذى تناول تحليلا تاريخيا مميزا للرد على كل ما قيل بشأن عدم مصرية الجزيرتين هي من الأمور التى يجب أن نتوقف أمامها قليلا!

حتى كتابة هذه السطور لم يكن البرلمان المصري قد حسم موقفه من الجدل بشأن أحقيته في الحكم النهائي على مصير الاتفاقية الموقعة مع المملكة العربية السعودية بخصوص ترسيم "تعيين" الحدود البحرية. فالانقسام مازال هو سيد الموقف بين فريق يرى حتمية الالتزام بالحكم كون أن إحالة الاتفاقية منذ البداية من رئيس الحكومة إلى البرلمان مباشرة دون المرور على مؤسسة الرئاسة كان خطئا صوبته المحكمة، وبين فريق يصر على مناقشة القضية فى البرلمان باعتبار أن الأخير هو صاحب القول الفصل فيها!

كذلك فحتى كتابة هذه السطور لم أتمكن من التوصل إلى أي تصريح رسمى صادر عن مؤسسة الرئاسة أو عن رأس الحكومة بشأن القضية، ولم أتمكن سوى من الاستماع إلى المداخلة التي قام بها محامي الحكومة مع برنامج "كل يوم" على فضائية ON والذي لم أفهم منه سوى بعض الردود العصبية التى تخلص بأن المحكمة لم تكن معنية أصلا بالموضوع، وهو الأمر الذي رد عليه أساتذة القانون بالتفصيل في البرنامج ذاته!

***

بعيدا عن كل هذا الجدل فلعل العنوان الأبرز لقضية الجزيرتين وما انتهت إليه هو أن "الوطنية" المصرية قد تحررت بعد أن ظلت مختطفة بواسطة السلطة ومن مثلها أو دافع عنها منذ صيف ٢٠١٣ وحتى اللحظة! فكثيرا ما تم وصم المعارضة المصرية بعدم الوطنية، كما تم الغمز واللمز فى حقيقة دورها وما إذا كانت بالفعل تسعى إلى "هدم مصر"، وهو المصطلح الأبرز الذي استخدمه إعلاميون وأكاديميون ومثقفون للدفاع عن مواقف السلطة والنيل من المعارضة بل والتشكيك فى وطنيتها وحقيقة دورها ودوافعها وتقليب الرأى العام عليها استغلالا لحالة الهيستريا التي كانت قد اجتاحت البلاد.

قضية الجزر المصرية كانت كاشفة بشكل غير مسبوق عن ذلك التناقض الرهيب بين موقف السلطة ومؤيديها وبين موقف المعارضة! ففى حين نظم الكثير من المعارضين أنفسهم بشكل تجاوز الأيديولوجيات وصراعات الهوية التي لطالما وقفت عقبة أمام العمل المنظم وهو ما أدى أولا إلى عمل فني متميز قام بالتنقيب عن الوثائق والخرائط التي تثبت مصرية الجزر، وأدى ثانيا إلى تأييد شعبي جارف كان الواضح فيه هو انضمام حتى من يؤيد النظام للقضية للتأكيد على وطنية الأمر محل النظر، فإن السلطة التنفيذية قد استماتت بشكل ملفت للنظر وتبارى أقطابها ومريدوها للتأكيد على أن الجزر ليست مصرية!

لست من هواة الإسهاب فى استخدام مفردتي "الوطنية" و "الخيانة" فى التحليل أو التوصيف، لكن القضية كانت دليلًا واضحًا عن أن هناك سلطة تنفيذية تتصرف بشكل منفرد للتنازل عن حق مصرى أصيل في مقابل تيارات تبارت للتأكيد على مصرية القضية ووقفت تهتف بنشيد البلاد بعد الحكم الشهير!

***

لا أعلم إن كنت أريد استخدام لفظة "درس" أو "دروس" للحديث عن ما حدث، ولكنى أسجل ثلاثة ملاحظات هنا تمثل حقائق واضحة للعيان بخصوص الشأن العام المصرى خلال السنوات القليلة الماضية.

الملاحظة الأولى: أن الوطنية ليست حكرا على أحد وهى ليست مجالا للمتاجرات السياسية الرخيصة، الوطنية ليست مجرد كلمة تقال، أو تبرع هنا أو هناك، لكنها مواقف تؤخذ على أرض الواقع، تصرفات سياسية تثبت بحق أن صاحبها وطنيا يحترم الدستور والقانون والشعب والسيادة والأرض والتي هى كلها مؤشرات متداخلة لمفهوم الوطن التى اشتقت منه لفظة الوطنية!

أما الملاحظة الثانية فهو أنه قد آن الأوان لفك ذلك الارتباط غير المفهوم بين الوطنية وبين السلطة الحاكمة، ذلك أن السلطة الحاكمة فى أي زمان ومكان لا تحتكر الوطنية، قد تكون وطنية أو لا تكون ذلك يرتبط بحجم تطبيقها للقانون والدستور، لكن وبكل تأكيد فإن معارضتها لا تعني أبدا خيانة أو عدم وطنية، بل قد تكون في الكثير من الأحيان ـ كما حدث مؤخرا فى مصر ـ تصحيح لمصير الوطن ومنع السلطة التنفيذية من الإقدام على قرارات تخرج عن الدستور والقانون وبالتالي عن المعنى المتعارف عليه للوطنية.

أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فهى أن التاريخ يثبت أن القضاء المستقل والتوازن والفصل بين السلطات هو السبيل الوحيد لإصلاح الأوطان ليس فقط لأن هذا التوازن والفصل هو الطريق الوحيد للتأكد من عدم احتكار السلطات ومن ثم الفساد السياسى، ولكن لأن العدل أيضا يصلح النفوس ويعيد التوازن للعقول وهى كلها أمور تصب في صميم المصلحة الوطنية والاستقرار ومن ثم التقدم!

***

لهؤلاء الذين فجأة تملكتهم الرغبة فى الحديث عن "الوطن الذي نشترك فيه جميعا دون أن نخًون فيه بعضنا البعض" بعد أن نالوا من كل معارض بالباطل، أقول لهم للأسف هذا الكلام قد تأخر كثيرا والأهم أنه يأتي ممن قد نهشوا في لحم الجميع تحت دعاوى الوطنية فلم يعد له مصداقية ولا أفهمه إلا فى ضوء كونه محاولة لامتصاص الغضب واحتواء ردود الفعل!

على المواطنين والمتابعين والمعلقين أن يتوقفوا عن استخدام مصطلحات مثل "المعارضة البناءة" أو "المعارضة الوطنية"، وعلى المعارضين أيضا أن يتوقفوا عن استقبال هذا الكلام بمعناه الإيجابي، ذلك أن الهدف من تلك المصطلحات ليس إيجابيا على أي حال، فطالما أن هناك معارضة بناءة فبكل تأكيد هناك أخرى هدامة، وطالما أن هناك من يتم نعته بالمعارض الوطني فسيكون أيضا هناك من سيتم نعته بالمعارض الخائن! لا يجب أن تبقي المعارضة أسيرة لهذه المصطلحات، ربما هناك معارضة جادة وأخرى هزلية، معارضة ديموقراطية وأخرى سلطوية، لكن بكل تأكيد يظل فعل المعارضة مشروعا وبعيدا كل البعد عن الخيانة والتآمر والهدم!

لا أرى الكثير فى المستقبل فى ظل الظروف الحالية، لكن مازال الوعى العام هو ما يمكن التعويل عليه والاحتفاء به، فبالرغم من كل المشكلات التي استنزفت المصريين على كل المستويات فمازال هناك من يقدر على التنظيم والاشتباك والمشاكسة؛ سعيا لفتح بعض الآفاق حتى لو كانت محدودة ومحجمة، ومازال هناك من هو قادر على متابعة القضايا الكبرى رغم استنزافه في التفاصيل الحياتية اليومية.

مكسب قضية تيران وصنافير يتخطى الانتصار لمصرية الأرض إلى أبعاد سياسية أخرى هامة فى مقدمتها التأكيد أن الانفراد بالسلطة وبالقرار لا ينتج عنه سوى المزيد من الأزمات والصراعات لا الحسم كما يتخيل البعض! المشاورات واحترام القسم الدستورى وعمل قيمة للإرادة الشعبية مهما بدت ضعيفة أو مستنزفة هو أمر لا غني عنه فى مصر ومن لا يستقبل كل هذه الرسائل الفائتة فإنه يدفع البلد لمزيد من الأزمات والمصير المجهول!