هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
أدرك جيدا أهمية منازعة المجتمع المدني للسلطوية الحاكمة في ادعائها امتلاك الحق الحصري للحديث باسم الوطنية المصرية والأمن القومي، تلك المنازعة التي اتسمت بفاعلية واضحة واكتسبت جماهيرية صريحة في قضية جزيرتي تيران وصنافير. أدرك ذلك جيدا، فمواجهة السلطوية تستدعي العمل على قلع جذور استعلائها باتجاه المجتمع والمواطن بداعي الانتصار للوطنية وتجريدها من مكارثية فرض الرأي الواحد وإسكات المعارضين تحت يافطة مقتضيات الأمن القومي. ولا شك لدي في حضور العديد من الفرص للالتفاف الجماهيري حول المعارضين ما أن يثبتوا فساد اتهامات السلطوية المتكررة لهم بانعدام الوطنية، بل ويقلبوا الآية هنا بوضع الحاكم ونخبته تحت مغبة الاتهام المضاد بالتفريط في الأرض والسيادة.
غير أن ثمن انزلاق المجتمع المدني إلى هذه المساحة الشعبوية يظل بحسابات القيم الديمقراطية فادحا. وأشد ما يخيفني في هذا السياق هو التراجع الكارثي للاهتمام بقضايا الحقوق والحريات في الفضاء العام على وقع طبول الوطنية، وتجاهل معارضي السلطوية لضرورة حشد قبول جماهيري واسع لدفاعهم عن ضحايا القمع من مظاليم في السجون ومختفين قسريا ومسلوبي حرية التنقل بالمنع من السفر وحق التصرف في الممتلكات الشخصية إلى المنظمات غير الحكومية التي تشن عليها هجمة شرسة تراوح أهدافها بين الإلغاء والتصفية وبين فرض هيمنة الآلة الأمنية. ولنا في محدودية اهتمام المجتمع المدني بمسألة إدراج دائرة من دوائر الجنايات ١٥٠٢ شخصا من المتحفظ على أموالهم وفقا لقرارات اللجنة الحكومية "لحصر وإدارة أموال جماعة الإخوان المسلمين" على قوائم الإرهابيين دليل بين على انزواء قضايا الحقوق والحريات في الفضاء العام.
***
فالأمر يعود إلى فبراير ٢٠١٥ عندما مرر رئيس الجمهورية مستخدما اختصاصه التشريعي حينها القانون (قرار بقانون) رقم 8 لسنة 2015 المسمى بقانون "تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين" والذي أقره البرلمان في ٢٠١٦ دون مناقشة. وللأسف، لم يلتفت كثيرون في المجتمع المدني للصياغات المطاطية التي يتضمنها القانون وتقبل التطويع للانتقام من غير المرضي عنهم حكوميا، ولا للعصف المنظم بضمانات الحقوق والحريات وإجراءات التقاضي العادل الذي يحويه. غاب النقاش حول القانون في الفضاء العام خلال العامين الماضيين، ثم استفقنا جميعا قبل أيام على وقع القائمة الطويلة "للإرهابيين" والعقوبات الشاملة المفروضة عليهم.
في أعقاب إقرار البرلمان لقانون الكيانات الإرهابية والإرهابيين، نبهت في مقالات سابقة إلى خطر الصياغات المطاطية التي تقبل التطويع لإنزال العقاب بمواطنين لم يثبت عليهم التورط في جرائم إرهابية أو في ممارسة للعنف وتصنفهم السلطوية الحاكمة كأعداء لأسباب أخرى. نبهت أيضا إلى تفريغ القانون لحق الناس في التجمع السلمي وفي تكوين الجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية وكذلك الحريات الصحفية وحرية التعبير عن الرأي في ظل استحالة التعريف القانوني المنضبط لصياغات مثل "الإخلال بالنظام العام"، و"تعريض سلامة المجتمع أو مصالحه أو أمته للخطر"، و"منع إحدى مؤسسات الدولة أو السلطات العامة من ممارسة أعمالها"، و"الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو الأمن القومي"، وغيرها. ولأن مواد القانون تربط بين جرائم الإرهاب المفترض بها التورط في ممارسة العنف واستخدام القوة المسلحة فعلا أو تمويلا وبين "الدعوة بأية وسيلة" إلى الاخلال بالنظام العام وغيره من الاتهامات مطاطية الصياغة، فإنها تعني وضع الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية التي تصنفها السلطوية الحاكمة "ككيانات معادية" وكذلك المعارضين السلميين والمدافعين عن الحقوق والحريات تحت مغبة الإدراج على قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين.
نبهت إلى أن مواد القانون تنظم اختصاص وإجراءات الإدراج على "قوائم الإرهاب" بالنص على اختصاص دائرة أو أكثر من دوائر الجنايات بمحكمة استئناف القاهرة" بنظر طلبات الإدراج على القوائم المقدمة من النائب العام والفصل فيها خلال سبعة أيام من تاريخ التقديم المستوفي للمستندات اللازمة. وهنا يبدو العصف بضمانات الحقوق والحريات وإجراءات التقاضي العادل ممنهجا وكاسحا. فالقانون لم يجعل الإدراج على القوائم عملا لاحقا على ثبوت تورط الكيانات المعنية والأفراد المقصودين في جرائم إرهاب وفقا لإجراءات قضائية نزيهة وشفافة، بل حوله إلى ما يشبه التعاون الإداري بين جهتين قضائيتين هما النيابة العامة ودوائر الجنايات. والقانون لم يحدد طبيعة ونوعية المستندات اللازمة لتقديم طلبات الإدراج، وترك الأمر "إداريا" لمكتب النائب العام ولدوائر الجنايات بمحكمة استئناف القاهرة. والقانون لم يمكن الكيانات المعنية والأفراد المقصودين من التداخل في مسألة الإدراج على القوائم قبل الانتهاء منها، ونزع عنهم من ثم الحق المنصوص عليه دستوريا وقانونيا في دفع الاتهامات ومناقشة الأدلة (أدلة الثبوت) وتقديم ما قد يدحضها. والقانون أحال حق "ذوي الشأن" في الطعن على الإدراج على قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين إلى ما بعد صدور قرارات الإدراج واختص محكمة النقض (الدائرة الجنائية) بالنظر في الطعون دون تحديد فترة زمنية للفصل فيها. والقانون رتب طيفا واسعا من الآثار الفورية التالية للإدراج على القوائم والتي يقضي بتنفيذها الفوري دون استشكالات قضائية أو انتظار للطعون المقدمة أمام محكمة النقض ولنتائج الفصل فيها، وتتراوح الآثار هذه بين وضع الأفراد المدرجين على قوائم المنع من السفر وترقب الوصول وإلغاء جوازات السفر وتجميد الأموال وبين فقدان شرط حسن السمعة والسيرة اللازم لتولي الوظائف والمناصب العامة والنيابية.
***
على الرغم من كون قانون "تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين" يمثل أداة طيعة للغاية في يد السلطوية الحاكمة لتعقب وإنزال العقاب بمعارضيها والعصف بمبادئ سيادة القانون، لم يعره كثيرون في المجتمع المدني اهتماما حقيقيا. باستثناء بضعة بيانات تعد على أصابع اليد الواحدة، لم يجتهد دعاة الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات لتنبيه الرأي العام لخطورة مواد وأحكام القانون ولبناء رفض شعبي له تمهيدا للمطالبة بتعديله. وما يقال في شأن القانون رقم ٨ لسنة ٢٠١٥، ينبغي أن يثار فيما خص بعض تعديلات قانون العقوبات (المادة ٧٨) وقانون الجمعيات الأهلية الذي مرره البرلمان مؤخرا (ولم يفعله بعد رئيس الجمهورية) وقانون التظاهر الذي أسقطت المحكمة الدستورية العليا مادة وحيدة من مواده وتركته قائما بإلغائه الممنهج للحق في التعبير الحر عن الرأي والتجمع السلمي. وما يقال في شأن القوانين التي مررتها السلطوية بين ٢٠١٣ واليوم، ينبغي أن يثار أيضا بشأن الإحالة المستمرة للمدنيين إلى القضاء العسكري وقمع أجهزة الحكم المتصاعد للحراك العمالي والنقابي والتعقب الأمني للمنظمات غير الحكومية المستقلة.
كافة هذه القضايا هي قضايا حقوق وحريات رئيسية، وتراجع الاهتمام بها على وقع طبول الوطنية يخصم من فرص الحشد الواعي للناس لمنازعة السلطوية وتطوير معارضتهم لها إلى بحث عن بدائل ديمقراطية.