هذا المقال بقلم د. عبدالخالق عبدالله، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظره ولا تعكس بالضورة رأي شبكة CNN.
بحضور قيادات عسكرية وأمنية عالمية، بينهم وزير الدفاع الأمريكي الذي يزور منطقة الشرق الاوسط لأول مرة، تستضيف أبوظبي هذا الأسبوع معرض ايديكس 2017، أحد أهم معارض صناعة الدفاع والأمن في العالم. وقبل أسبوع عُقدت القمة العالمية للحكومات بدبي على مدى ثلاثة أيام، بحضور شخصيات سياسية ومالية عالمية، بينهم الأمين العام للامم المتحدة، ورئيسة صندوق النقد الدولي ورئيس البنك الدولي ومسؤولون من عدة دول. وفي الأمس القريب صعدت الامارات الى المرتبة الثامنة عالميا في مؤشر حرية الاقتصاد - أحد أهم مؤشرات التنافسية والمتانة لأي إقتصاد - متقدمة بذلك على دول عريقة في هذا المجال كبريطانيا التي حلت في الترتيب 12 وأمريكا التي جاء ترتيبها 17 عالميا.
هذه المؤشرات والفعاليات النوعية على أرض الامارات التي لم تعد تتوقف، تؤكد من جديد بروز الامارات كدولة نشطة لها وزنها ومصداقيتها وسجلها التنموي الحافل، وتأثيرها السياسي الذي تزايد بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة. لقد أصبح نفوذ الامارات الاقتصادي والسياسي والعسكري ممتداً بامتداد العالم العربي. كانت الامارات قوة اقتصادية واستثمارية واعلامية ناعمة لكنها أيضا لفتت الانظار لها مؤخراً كقوة عسكرية صلبة تتواجد في أكثر من موقع من مواقع المواجهة الساخنة، وتبدو فاعلة ومؤثرة في أكثر من ملف من الملفات الإقليمية الصعبة في اليمن وليبيا وسوريا مروراً بمصر.
وقبل تزايد حضور الامارات السياسي والعسكري الإقليمي، كان نموذج الامارات التنموي الاتحادي هو النموذج الصاعد في الفضاء العربي، وأصبح على قدر كبير من الجاذبية والاغراء، وتحول الى النموذج الملهم والمحفز لدول المنطقة. وتشير المعطيات الجيوستراتيجية الحيوية إلى أن الإمارات قد أكدت حضورها كمركز ثقل سياسي ودبلوماسي يتصف بالمصداقية، ويعتمد عليه ويعتد به من الأصدقاء خليجيا وعربيا وحتى عالميا. فالإمارات اليوم مفعمة بالنشاط في الداخل وخلية لا تهدأ من الحضور والتأثير في الخارج على مدار السنة.
هذا الحضور والتأثير المتنامي للإمارات لا شك أنه أثار انتباه القريب والبعيد وطرح أكثر من سؤال حول: من أين تستمد الإمارات حضورها ونشاطها الخارجي المكثف؟ وماهي مصادر قوة وحيوية نموذج الإمارات التنموي والاتحادي؟ وكيف أصبحت الامارات في أقل من أربعة عقود قوة ناعمة وصلبة في محيطها العربي؟ وما هي أجندات الامارات؟ وما الذي تود أن تحققه عربيا عبر سياستها الخارجية النشطة أكثر من العادة؟
أول ما يتبادر الى الذهن أن حضور الإمارات المكثف في الشأن العربي مرتبط أشد الارتباط بقلق الإمارات المشروع تجاه الظروف الإقليمية شديدة الخطورة التي تتطلب مواقف وسياسات تستجيب للتهديدات والمخاطر بالذهاب إلى عقر دارها قبل أن تقترب كثيرا من الإمارات. إن أول بند على أجندة الإمارات الخارجية هو حفظ الأمن والاستقرار والاعتدال في المنطقة العربية التي فقدت البوصلة وتعاني من فراغ قيادي وفراغ أمني وفراغ سياسي غير مسبوق. ظروف المنطقة الاستثنائية تتطلب القيام بأدوار إقليمية إستثنائية وحازمة لمواجهة قوى الإرهاب والفوضى والتطرف، والتصدي لتمدد وتوسع قوى إقليمية شرسة تستهدف النسيج الاجتماعي والسياسي لدول الجوار الجغرافي. أمن واستقرار الإمارات يتطلب مثل هذا الحضور الإقليمي المكثف ويستدعي القيام بأدوار قيادية جديدة.
لكن بقدر ما أن سياسة الإمارات الخارجية النشطة مرتبطة بقلقها المشروع تجاه انجراف المنطقة نحو هاوية الفوضى والخوض التام لقوى الإرهاب والهيمنة، إلا أن حضور الإمارات النشط والقوي في الشأن العربي له علاقة مباشرة بثقة الإمارات بقدراتها وإمكانياتها ومواردها المالية والاقتصادية والدبلوماسية والأمنية والعسكرية المسنودة بمؤسسات مستقرة وبشكبة من العلاقات الدولية المتنامية. لقد حان وقت توظيف هذه القدرات والإمكانيات والموارد لتوسيع حضور الإمارات وزيادة نفوذها، وقيامها بأدوار قيادية، والمساهمة في إطفاء حرائق المنطقة وتقديم المعونات لدول الاعتدال العربي والمساعدة في أعمال الإغاثة الإنسانية التي هي أحد أهم سمات القوة الناعمة لنموذج الإمارات. قدرات وإمكانيات دولة الإمارات هي من الضخامة والمتانة بحيث تجعل هذه الدولة الخليجية الصاعدة مؤهلة لاتباع سياسة خارجية قائمة على المبادرات الجريئة والاستجابات السريعة للتعامل مع ما يجري في المنطقة من حولها. الإمارات ليست قوية بقدراتها وإمكانياتها بل هي قوية بتنوع اقتصادها واستقرارها السياسي وتماسكها الإجتماعي. إن تنامي نفوذ الإمارات في الشأن العربي له علاقة وثقية باستقرار الإمارات الداخلي حيث تشير أدبيات العلاقات الدولية أن الدول المستقرة داخليا هي من بين الدول أكثر الدول نشاطا وحضورا خارجيا. استقرار الإمارات الداخلي يساعد في تدعيم نفوذها الاقليمي والدولي المتنامي.
والمؤكد أن الإمارات لم تكن لتمارس سياسة خارجية نشطة قائمة على ثنائية المبادرات والاستجابات بدون قيادة شابة واثقة كل الثقة مما لديها من معطيات القوة الناعمة والصلبة. علاوة على ذلك تستشعر قيادة الإمارات مسؤولياتها التاريخية، فهي رائدة لعصرها وتسعى لصناعة مستقبل أمّتها وتعي تماما خطورة التهديدات الإقليمية التي تواجهها وتواجه دول المنطقة. وواضح الآن أن القيادة في الإمارات ترى أن اللحظة مواتية لزيادة نفوذ الإمارات، وتحويل أبوظبي إلى عاصمة الاعتدال العربي في زمن الفوضى والتطرف. كما ترى أن لتأكيد دور دبي كعاصمة المال والأعمال والتجارة والإعلام والإبداع ليس في المحيط العربي بل في شمال وجنوب منطقة وسط العالم بأسره التي تقطنها نحو ثلاث مليارات نسمة. النشاط الإقليمي والحضور العربي هو جزء من طموح هذه القيادة لجعل الإمارات مركز الثقل الحضاري العربي الجديد، والصعود باقتصادها نحو العالمية، ووضعها على الخريطة العربية والدولية كدولة مسؤولة مسؤولية كاملة عن أمنها واستقرارها علاوة على تحمل مسؤولية تاريخية، إضافية تجاه أمن واستقرار جوارها الجغرافي.
لكن أيضا لم يكن بإمكان الإمارات القيام بأدوار إنسانية وسياسية ودبلوماسية وتنموية وثقافية نشطة في المنطقة العربية بدون الشراكة الكاملة مع الرياض، أهم عاصمة عربية. فلا أحد يجادل أن السعودية هي أكثر الدول العربية فاعلية ونفوذا وتأثيرا في المشهد العربي المعاصر، وطريق الامارات لمواجهة التهديدات، وحل الأزمات وإعادة الاستقرار وبث الحياة والحيوية في محور الاعتدال العربي يمر بالضرورة عبر التعاون والتنسيق والتكامل مع القيادة السعودية. وبنفس أهمية التنسيق مع السعودية يتضح أيضا أنه لولا ثقة المجتمع الدولي في الإمارات وتقدير العواصم العالمية الفاعلة لقادتها ونموذجها التنموي وسياستها المتوازنة، لما أخذت الإمارات على عاتقها مسؤولية التصدي للارهاب، ومواجهة قوى التمدد والتوسع في المنطقة. هذا الضوء الأخضر من المجتمع الدولي للإمارات يطمئن ال‘مارات للاستمرار في زخم حضورها الدبلوماسي ودفعها السياسي وتحولها الى مركز الثقل العربي الجديد.
هذا الدفع الإماراتي في المحيط العربي المسنود بعلاقاتها الاقليمية والدولية والمعتمد أساسا على ثقتها بقدراتها ومواردها مرشح له أن يستمر. لكن زخم الإمارات وتنامي نفوذها وتزايد حضورها ونشاطها الخارجي الذي لفت أنظار المتابعين مؤخرا هو أيضا جزء لا يتجزأ من تطور تاريخي في غاية الاهمية هو بروز لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر. الإمارات في قلب لحظة الخليج التي تعني أن الجزء الخليجي المكون من دول مجلس التعاون الست، أصبحت في السنوات الأخيرة أكثر حضورا وتأثيرا في الكل العربي المكون من 16 دولة عربية، من حضور وتأثير الكل العربي في الجزء الخليجي. هذه المعادلة الفريدة والمنحازة للجزء الخليجي هي من أبرز سمات المشهد العربي في بداية الألفية الثالثة ومرشحة أن تجعل القرن الواحد والعشرين قرن الخليج في التاريخ العربي المعاصر.