هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
يبدو أنه حان أخيرا موعد الإجابة على سؤال التصق بالصراع على فلسطين منذ بدايته عند نهاية الحرب العالمية الأولى. شخص ما في مكان ما طرح على العرب واليهود في أعقاب صدور وعد بلفور فكرة أن يوما سيأتي حين يقرر الطرفان أنهما يستطيعان العيش معا على أرض فلسطين أو حين يقرر طرف منفرد أنه حتى لو كان العيش إلى جانب الآخر ممكنا فلن يكون التعايش ممكنا. كعادتهم وبتأثير ثقافتهم الإقليمية تسرع العرب بالإعلان عن أن تقسيم الأرض بين اليهود والفلسطينيين غير مقبول فكانت الحرب التي لم يكن العرب مستعدين لها ولا الفلسطينيون، وهي الحرب الأولى التي انتهت بطرد الدفعة الأولي منهم إلى خارج فلسطين. قامت إسرائيل ولم تقم فلسطين.
يتعايشان أم لا يتعايشان. كان الظن طول الوقت يميل إلى أنه ربما يأتي يوم يتعود فيه الشعبان كل على الآخر فيتعاونان في مجال ثم في آخر لينتهي الأمر بقبولهما التعايش، فيتوقف الصراع. يعيش الطرفان على أرض واحدة وتحت نظام ديمقراطي يضمن حقوق المواطنين ويحمي عقائدهم ويحترم مقدساتهم. أو يعيش الطرفان على جزئين منفصلين من الأرض تربط بينهما اتفاقات حدود وأمن متبادل تضمنها الدول الكبرى ودول الإقليم. بقي الظن وهما. قادة في الطرفين عاشوا الوهم، وأغلبهم في الطرف الفلسطيني ووقعوا اتفاقية أوسلو. صنعوا الوهم ونفذوه وغطسوا فيه. قادة آخرون، أغلبهم في الطرف الإسرائيلي لم ينساقوا وراء وهم التعايش. ظلوا متمسكين بأهداف واضحة وخطة طريق ثابتة. هذه الأرض أرض إسرائيل وسوف "نحصل عليها كاملة وإن على مراحل". في كل مرحلة يحصلون على قطعة من أراضي الفلسطينيين، ينسفون البيوت ويقتلعون الزراعات ويعتقلون الشباب وفي أحيان كان الأمن الفلسطيني موجودا في خدمة الإسرائيلي وفي أحيان أخري موجودا وشاهدا ولا يحمي أرضا أو شعبا. فقط يحمي قادة الوهم. هكذا تتوسع مساحة إسرائيل وتضيق مساحة فلسطين. هكذا تحقق معظم الحلم الصهيوني بتكلفة زهيدة ولم يبق سوى مرحلة، أظن أنها الأخيرة.
***
أتحفنا دونالد ترامب حين كان مرشحا للرئاسة ثم وهو رئيس بمؤتمرات وخطابات أثارت مشاعر قوية وإن متناقضة في جميع أنحاء العالم. كان نصيبنا فيها الأكثر. آخرها مؤتمره الصحفي الذي عقده مع صديقه القديم وربيب نعمة أصهاره بنيامين نتنياهو. كان المؤتمر في أحد جوانبه مهزلة لا تقل هزلا عن مؤتمرات أخرى عقدها مع مسئولين أجانب أو عقدها منفردا. ولكن في جوانب أخرى، وهو الجانب الذي يخصنا، كان فرصة رائعة لنعرف كشعوب عربية وبيننا شعب فلسطين، أن المرحلة الأخيرة في صراع الإسرائيليين مع العرب قد بدأت منذ شهور قليلة، وأن أطرافا غير قليلة تشترك بجهود وموارد متفاوتة لتمهيد شعوب الإقليم والرأي العام العالمي لتطور أخير قادم مع أول فرصة تتاح.
عرفنا في المؤتمر الصحفي أن القيادتين الأمريكية والإسرائيلية قررتا أن الوقت حان لإبلاغ العالم بأسره والفلسطينيين بخاصة أن التعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين غير ممكن. سمعنا أيضا عن حل إقليمي جديد ظن البعض منا أنه من بنات أفكار السيد ترامب ليكتشف بعد أيام أنه كان من إبداعات جون كيري. الآن فقط نعرف أن إدارة باراك أوباما لم تتخلف عن عادة استنتها عقول سخيفة في الخارجية الأمريكية، وهي عادة التقدم باقتراح تسوية للقادة الفلسطينيين والإسرائيليين في اللحظة الأخيرة من عمر الإدارة الحاكمة في واشنطن، يلقون الاقتراح أو المبادرة ويهربون. لم يحاول أحد التقاط مبادرة من هذه المبادرات باستثناء مبادرة جون كيري، لأنها جاءت على هوى أطراف أخرى في العالم العربي وجاءت تلبي رغبة إسرائيلية حامية ولأنها لم تعر الطرف الفلسطيني اهتماما. التقطتها إسرائيل والتقطها عرب ولم ندر بها إلا حين أعلن دونالد ترامب تبنيها وصدق عليه بنيامين نتنياهو في المؤتمر الصحفي المشهود.
قد يهمك أيضا.. نتنياهو: الدول العربية لم تعد ترى إسرائيل كعدو بل كحليف.. وترامب: سنشرك لاعبين كبار في المفاوضات
***
أن يكون الحل إقليميا فكرة ليست جديدة. طرحها العرب في قمتين على الأقل، قمة فاس قبل خمسة وثلاثين عاما وقمة بيروت قبل خمسة عشر عاما. رفضتهما إسرائيل لأنها لم تكن توسعت بقدر ما هو مرسوم في خطة طريقها ولأنها تريد أن تحصل من العرب على ما هو أكثر وأهم من التطبيع. تريد أن يشترك العرب في تحمل مسئولية إنهاء القضية الفلسطينية أو على الأقل "إنكار" وتجاوز وجودها. هذه الرغبة ليست جديدة بل أعلنتها وتمسكت بها حتى حصلت عليها في مفاوضات كامب ديفيد حين جعلتها ملحقا لا ينفذ. جاءتها الفرصة النموذجية، أو بدقة أكبر، جاءتها مجموعة فرص في ربطة واحدة. أول الفرص عالم عربي ممزق تهدد استقراره وتجمعاته أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية خطيرة. ثانيها قادة من العرب مستعدون نفسيا وربما سياسيا للقبول بمبدأ إعادة توزيع السكان، أي تغيير خرائط ديموغرافية تحت ضغط الإرهاب واحتدام الصراعات الطائفية والنية المبيتة لدى أطراف دولية لدعم تغييرات جديدة في حدود دول المنطقة. ثالثها دخول إيران طرفا خارجيا في سباقات رسم الخرائط السكانية الجديدة في بلاد المشرق العربي وترسيخ نفوذها في عدد منها، أي دخولها عنصرا قويا وفاعلا في المجال الحيوي الإسرائيلي. هكذا ولدت مصلحة مشتركة لأطراف عربية تشعر بتهديد من نفوذ إيراني متصاعد لم تجد القوة لوقفه إن لم يكن رده، وطرف إسرائيلي لديه القوة الكافية ولكنه مقيد ومحروم دوليا وأمريكيا من اتخاذ قرار مستقل بشن حرب على إيران.
***
إسرائيل المحرومة دوليا من القرار المستقل بشن حرب ضد إيران ليست محرومة من قرار شن حرب ضد ذراع من أذرع إيران المنتشرة في العالم العربي. بعض هذه الأذرع مدموغة دوليا وأمريكيا بخاتم الإرهاب. حزب الله بلا شك أهم أّذرع إيران على الإطلاق وبخاصة في سوريا ولبنان والمقاومة الفلسطينية في غزة وخطر لا يستهان به في شمال إسرائيل، وبالتالي يصبح إضعافه أو شله هدفا مشتركا لإسرائيل ودول عربية تشعر بتهديد دائم لاستقرارها ووحدتها الوطنية. هكذا صار ضروريا لإسرائيل السير بخطوات حثيثة وجادة نحو إقامة جبهة إقليمية بمهمة مثلثة، التنسيق والتعاون في ضرب أذرع إيران ابتداء بحزب الله في لبنان، القبول الإقليمي بعد شهور باستقبال وتوطين فوج جديد من اللاجئين الفلسطينيين الذين ستضيق بهم الأرض في الضفة وغزة حين تكتمل خطة التوسع الإسرائيلي، المشاركة كجماعة إقليمية في ترتيبات إقامة نظام إقليمي جديد. مرة أخرى تقوم إسرائيل بتحميل العرب مسئولية هجرة فلسطينية واسعة، ولكن هذه المرة يأمل الإسرائيليون في هجرة تعاقدية أي برضاء الأطراف العربية في الجبهة. لا أعتقد ولو للحظة واحدة أن الرئيس الأمريكي يعترض على أن تواصل إسرائيل جهودها لإقامة هذه الجبهة، ففي مجرد إقامتها، كما ألمح في المؤتمر الصحفي، حل المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية. لكن هل يمكن أن تتحقق المهمة الإسرائيلية المثلثة بدون عنف داخلي، وبدون حرب؟
***
الأجواء الراهنة أجواء استعدادات لحرب. ضجة في أوساط السياسة تتصدرها تصريحات يمينية متشددة في إسرائيل. تسريبات لاتصالات هاتفية والكشف بأساليب شتى وبعضها ساذج عن لقاءات سرية في العقبة وغيرها. حملة أنباء حقيقية ومزيفة عن جهود وساطة أو تهدئة لمنع إسرائيل من شن حرب على حزب الله وتحذير هذا الأخير من ضراوة ما يعد له، فالحرب هذه المرة وفي أجواء إقليمية ملتهبة ستكون شرسة ولكن في الوقت نفسه قد لا تأتي مسيرتها ونتيجتها بالضرورة على هوى خصومه، لسبب بسيط وهو أنه صار لحزب الله أذرع شقيقة وعديدة في مواقع أخرى من الشرق الأوسط، وأغلبها لن يركن ساكنا.