هذا المقال بقلم البروفيسور جاستين توماس، أخصائي الصحة النفسية لدى الجمعية البريطانية للطب النفسي، وأستاذ علم النفس في جامعة زايد بالإمارات، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس وجهة نظر شبكة CNN.
أطلق الرومان في قديم الزمان، بعين يملؤها الحسد، على أجزاء من العالم العربي اسم “Arabia Felix” أي الجزيرة العربية السعيدة. فإلى أي مدى كان أهل الجزيرة العربية قديماً سعداء حتى يحسدهم الآخرون، وإلى أي مدى اختبروا مشاعر الحزن والقلق والأنواع الأخرى من الخيبات العاطفية، والتي نعتبرها من أعراض مشاكل الصحة النفسية.
يُذكر أن أقدم مخطوطة موجودة تتناول مرض الاكتئاب بشكل شامل، موجودة في العالم العربي وهي “مقالة في الماليخوليا” (دراسة عن الاكتئاب) لإسحاق بن عمران، وهو طبيب عربي عراقي عمل في تونس في القرن العاشر. يؤكد لنا هذا العمل القيّم أن مشاكل الصحة النفسية - والتي نطلق عليها اليوم الاكتئاب أو الاضطراب الثنائي القطب - كانت سائدة في العالم العربي. كما يكشف لنا أن البعض في تلك الفترة، ولو بنسبة قليلة، كانوا ينظرون لهذه الأمراض على أنها مشاكل نفسية قابلة للعلاج وليست مس شيطاني أو عدم إيمان أو التمارض وضعف الإرادة.
وخصص استطلاع رأي الشباب العربي هذا العام قسماً لاستكشاف نظرة الشباب إلى قضايا الصحة النفسية في العالم العربي اليوم. ويأتي هذا التركيز في وقته، لأنه رغم عدم الإفصاح عن أغلب الحالات، إلا أن مشاكل الصحة النفسية قد تطورت إلى مستويات وبائية في العديد من الدول. إذ تشير تقارير لمنظمة الصحة العالمية أن نحو 1,1 مليار شخص عبر العالم قد عانوا من مشكلة نفسية في عام 2016. وتعتبر كلفة علاج الأمراض النفسية حالياً أكبر من تكاليف المشاكل الصحية الأخرى، ومن المتوقع أن تصل هذه الكلفة إلى 6 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2030.
يشير استطلاع رأي الشباب العربي لعام 2019 إلى أن ثلث الشباب العربي يقولون إنهم يعرفون شخصاً يعاني من مشكلات نفسية. يتكرر هذا الاكتشاف في الدراسات الوبائية العالمية الكبيرة، والتي شمل العديد منها أجزاء من العالم العربي. على سبيل المثال، أظهرت دراسة عبء المرض العالمي لعام 2010 أن عبء مرض الاكتئاب في دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر أعلى من المتوسط العالمي. ويندرج المصطلح “عبء” في اقتصاديات الصحة ويعني الأثر الاقتصادي المرتبط بالمشكلات الصحية، كفقدان إنتاجية القوى العاملة وتكاليف العلاج العالية على سبيل المثال. فالأمراض المزمنة (التي تستمر لفترة طويلة من الزمن)، والأمراض التي تظهر في سن مبكر (أمراض الشباب) هي أمراض متعبة من الناحية الاقتصادية، باختصار الاكتئاب مثلاً مكلفٌ مادياً أكثر من داء السكري.
وأشار نصف الشباب العربي ممن شملهم الاستطلاع إلى أن طلب الرعاية النفسية في بلدانهم يعتبر أمراً سلبياً. وأن وصمة العار التي تلحق بالأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية موجودة بالفعل، رغم العديد من الحالات الشُجاعة في طلب العلاج والتي ستستمر بلا شك وتنتقل إلى الأجيال القادمة.
لدى وصمة العار المقترنة بالأزمات النفسية ماضِ قبيح. فقد كان يُنظر لمرضى الصحة العقلية في ألمانيا في عهد النازية على أنهم “لا يستحقون الحياة”. ويعتقد روبرت بروكتور، أستاذ التاريخ في جامعة ستانفورد، أن أول استخدام لغرف الغاز كان في مستشفيات الأمراض النفسية. كما أن هناك اعتقاد بأن الأطباء النفسيين الألمان كانوا متواطئين في قتل نحو 70 ألف شخص ممن يعانون مشاكل عقلية. وفي الولايات المتحدة، تعرض الآلاف من هؤلاء للتعقيم الإجباري، وذلك تطبيقاً لما كان يسمى “الوقاية من تصرفات البلاهة”.
ورغم توقف معظم الدول عن عمليات الإبادة أو تعقيم مرضى الصحة النفسية، إلا أننا لا نزال نتجنبهم ونوصمهم بالعار وننكرهم ونُقصيهم. وجابت مؤسسة “مايند” الخيرية للصحة العقلية في المملكة المتحدة العالم للبحث في أمثلةٍ عن ذلك، بدءاً من القوانين الليتوانية التي تمنع ملكية الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية للمنازل، إلى حمامات السباحة في كوريا الجنوبية التي تمنع هؤلاء الأشخاص من الدخول إليها. وفي المملكة المتحدة، استمر منع من يعانون من مشاكل موثقة حتى يوليو 2013، من استلام إدارة الشركات، وتم استبعادهم من خدمة هيئة المحلفين.
هذه أمثلة حقيقية على وصمات العار والتمييز التي ترافق مرضى الصحة النفسية على المستوى المؤسسي، والتي من الممكن تغييرها بسرعة عبر تعديل السياسات أو القوانين. لكن قد تكون الأمور أكثر تعقيداً على المستوى الفردي، وتعصى على التغيير. فغالباً ما يتعرض الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية إلى النبذ أو الإساءة. وقد يشعر البعض بالعار إزاء ارتباطهم بأشخاص يعانون مشاكل نفسية، حتى لو كانوا أحد أفراد أسرتهم. كما يمكن أن تمتد وصمة العار في المجتمعات التي ترتبط ببعضها ارتباطاً وثيقاً من الفرد لتطال سمعة جميع أفراد الأسرة. فمثلاً، قد يسبب الإفصاح عن مشاكل الصحة النفسية أزمة اجتماعية (مثل تراجع فرص الزواج والعمل) لأفراد الأسرة الآخرين.
وبطبيعة الحال، يحول الخجل ووصمة العار اللصيقة بمشكلات الصحة النفسية دون طلب الرعاية الصحية المناسبة. وهنا تكمن المأساة، لأن الرعاية المبكرة- في أغلب الحالات - قد تكون الفصل بين الشفاء العاجل والتام، وبين تقدم الحالة المرضية واستعصائها على العلاج وتحولها إلى مرض دائم.
وبالطبع لا تعتبر وصمة العار الحائل الوحيد دون طلب الرعاية الصحية النفسية. فما الفائدة من طلب الرعاية إذا كانت غير متوفرة، أو إذا كانت دون المعايير المطلوبة. وأشار 55% من الشباب العربي المشارك في الاستطلاع إلى صعوبة الحصول على خدمات رعاية نفسية جيدة في بلدانهم. وقد تباينت الإجابات حول هذا السؤال تبعاً للمنطقة، فقد صنفها 81% من الشباب في شرق المتوسط واليمن بأنها صعبة المنال.
وفي العلاج النفسي، الذي يعتبر أكثر العلاجات فعالية في حالات الاكتئاب والقلق، غالباً ما يتطلب الأمر استخدام لغة الشخص الذي يتم التعامل معه، والأهم من ذلك الاطلاع بشكل وافٍ على ثقافته لفهمه بصورة أفضل؛ فمثلاً الساق المكسورة هي ذاتها في جميع اللغات والثقافات، أما القلب المكسور فيحمل عدة احتمالات. وعليه، لن يكون خيار استقدام معالجين نفسيين من الخارج خياراً ناجعاً على الدوام. فمن المهم أن يحصل الناس على العلاج من أخصائيين محليين، مما يتطلب تدريب وإشراف على أعلى مستويات الجودة للأشخاص الراغبين في اتخاذ هذا المسار المهني. ويعتمد تحسين الحصول إلى رعاية عالية الجودة لمشكلات الصحة النفسية، على توفير برامج تدريب بمستوى الدراسات العليا، وبذلك نضمن توفير مصدر ثابت وموثوق من أخصائيين الصحة النفسية الذين يتمتعون بكفاءات ومهارات عالية تمكنهم من تلبية احتياجات الناس في بلدانهم.