دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- في الوقت الذي تسبب فيه أحد أكبر الانفجارات غير النووية بالتاريخ في ميناء بيروت باجتياح المدينة ودمارها، كانت زينة عريضة، وهي مديرة متحف قصر سرسق، تقف خارج مكتبها مع اثنين من زملائها.
وفي لحظة غفلة، ألقت بهم قوة الانفجار عند سلم المتحف، أي على بعد أقل من ميل واحد، حيث كان حطام النوافذ والزجاج يحيط بهم من كل مكان.
"لقد هربنا بمعجزة"، هذا ما قالته عريضة بعد ثلاثة أيام من وقوع الانفجار.. وأضافت: "تدمر المتحف بكل بساطة، لم يكن هناك أي باب، أو نافذة، أو زجاج، متبقي على حاله في البناء".
وتسببت قوة الانفجار أيضاً في هدم أجزاء من الأسقف والجدران الداخلية للمتحف، وهو موجود في قصر أبيض مزخرف يعود تاريخه إلى عام 1912.
وبعد أقل من 5 سنوات من إعادة افتتاحه في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، وعمليات تجديدية دامت لـ7 سنوات بتكلفة تزيد عن الـ10 ملايين دولار، أصبح المتحف حطاماً.
وعرض المتحف مجموعة كبيرة من الفن اللبناني، الذي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر فصاعداً، وكان معروفاً أيضاً باستضافته معارض مؤقتة منتظمة لفنانيين لبنانيين وعالميين.
ورغم تضرر العديد من الأعمال الموجودة في المتحف، إلا أن النوافذ الزجاجية التي تزين واجهة البناء قد أنقذت الكثير منها من الدمار.
وتقول عريضة: "الزجاج الملون رقيق للغاية، لدرجة أننا عندما ذهبنا لإلقاء نظرة على الضرر أول مرة، كنا نسير على أرضية من البودرة الملونة".
وتسبب الانفجار الهائل، الذي ورد أنه نتج عن 2750 طناً مترياً من نترات الأمونيوم المخزنة في مستودع في ميناء بيروت، إلى مقتل أكثر من 170 شخصاً، وإصابة أكثر من 6 آلاف شخص، ونزوح أكثر من 300 ألف شخص من منازلهم
وكون الانفجار سحابة فطرية الشكل، وموجة ارتدادية ألحقت الضرر بالعديد من المباني الموجودة على بعد أميال. وقالت عريضة: "أعرف الكثير من الجرحى الذين فقدوا منازلهم، بعضهم مات.. إنه كابوس حي".
شوارع مليئة بالفنانين
كانت تقع العديد من المساحات الفنية بالمدينة، وهي موجودة في أحياء مار مخايل والجميزة وغيرها، بالقرب من مركز الانفجار. وقال الكاتب المسرحي والمخرج، لوسيان بورجيلي: "كانت هذه الشوارع مركزاً للفنانين من العديد من نواحي الحياة.. إنها مليئة بأصدقائنا وزملائنا".
بعد ثلاثة أيام من الانفجار، أنشأ بورجيلي وآخرون مجموعة على الإنترنت لتقديم المساعدة والدعم للأشخاص الذين فقدوا منازلهم.
ويقول بورجيلي، الذي ساعد في تنظيم الاحتجاجات عام 2015 عندما تركت القمامة في شوارع بيروت، إن الفنانين يلعبون دوراً حاسماً في قيادة الدعوة للتغيير بعد الانفجار، لأنهم غالباً ما يعملون لحسابهم الخاص، وليسوا مندمجين في النظام السياسي الطائفي بلبنان.
وكان الانفجار قد دمر معرض "غاليري تانيت"، الذي يقع على بعد أقل من كيلومتر من الانفجار، تاركاً وراءه أعمدة خرسانية فقط. وأصيب أحد الموظفين بجروح خطيرة، كما قتل جان مارك بونفيس في الانفجار، وهو المهندس المعماري الذي صمم المعرض وعاش فوقه.
وتعرضت المؤسسة العربية للصور، وهي تحمي مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية التي توثق قرنًا من الحياة في الشرق الأوسط، لأضرار بالغة. وأصيب ثلاثة من الموظفين وأعضاء مجلس الإدارة جراء الانفجار.
وفي الوقت الذي يعلنون فيه الحداد على ضحايا الانفجار، يكافح صانعو المعارض والفنانون والمبدعون في المدينة لمعالجة الأضرار التي لحقت بالعديد من الأماكن الثقافية الأكثر أهمية في المدينة.
ويقول المصمم صالح بركات، الذي افتتح معرض أجيال من الفن: "المدينة دمرت، إنها في حالة تفوق الوصف.. لا يوجد شخص واحد في بيروت لم يتضرر.. إنها كارثة لا تصدق".
ويُعتقد على نطاق واسع أن الانفجار حدث كنتيجة مباشرة للفساد والخلل الوظيفي بين القادة الذين تشبثوا بالسلطة لأكثر من ثلاثة عقود.
وقال: "ربما كنا بحاجة إلى هذا كنداء للاستيقاظ، نحن غاضبون للغاية، نحن ندفن موتانا ونعتني بالمصابين، لكن الغضب يتزايد ويتزايد".
طريق بطيء نحو إعادة الافتتاح
يقول بركات: "سيكون من غير المرجح أن تعود الأمور إلى طبيعتها أو أن المشهد الفني سيعود مرة أخرى، في أقل من ستة أشهر".
وأضاف: "كيف يمكنني أن أعيد الافتتاح مرة أخرى؟ ليس لدي نوافذ، وليس لدي أبواب، ليس لدي أي شيء.. لقد رأيت الكثير من المواقف السيئة، ولكن كان هناك أمل في كل مرة.. نحن الآن مفلسون، كيف ستفعل أي شيء إذا لم يكن لديك أي نقود".
وقال صاحب المعرض: "لن نتوقف عن الدفاع عن قضيتنا، لكن يجب أن تكون هناك بعض التغييرات قبل أن نتمكن من الاستمرار.. يجب أن نكرس وقتنا وحياتنا لتغيير النظام، وبعد ذلك سنرى".
وتدمر معرض "مشاريع المرفأ"، وهو يقع بجوار المكتب الجمركي في المرفأ اللبناني، بشكل كامل جراء الانفجار. وقالت مالكة المعرض، جمانا عسيلي: "كل ذلك الوقت كنا نعمل ونعرض الأعمال، على بعد 500 متر، من نوع من القنبلة النووية".
لم تعد عسيلي مهتمة بفقدان معرضها، ولكن ما يثيرها غضباً هو الأشخاص الذين فقدوا حياتهم، ومنازلهم، والأشخاص الذين ليس لديهم المال لإعادة بناء بيوتهم.
ولكن تبقى عسيلي مصممة على إعادة فتح معرضها مرة أخرى، حيث قالت: "كان الموقع مهماً للغاية بالنسبة لي"، مضيفة: "تشعر فعلاً أنها قلب بيروت، لأن كل شيء يمر من هناك".
وتحت الغضب والحزن، يشعر الكثيرون بالإرهاق. وقالت عريضة: "يعتمد المشهد الثقافي بشكل كبير على المبادرات الخاصة، وفي كثير من الأحيان على أفراد معينين كانوا يكافحون على مدار الـ25 عاماً الماضية، إن لم يكن أكثر، والمخيف هو أننا بالفعل مرهقون ومحبطون للغاية".
مدينة حزينة
ومع الضرر الناجم عن الانفجار، وهو مقدر بقيمة تصل إلى 5 مليارات دولار، يتزايد القلق أيضاً بشأن كيفية حماية التراث المعماري للمدينة.
واليوم، يشعر الكثيرون بالقلق من هدم هذه المباني.
وأوضح غريغوري بوكاجيان، وهو فنان أمضى 10 سنوات في توثيق المباني المهجورة ببيروت، أن "الحرب" مستمرة منذ فترة طويلة، بين أولئك الذين يريدون الحفاظ على التراث المعماري للمدينة والحكومة، التي تركت مباني الحقبة العثمانية والانتداب الفرنسي عرضة للمطورين الذين يريدون هدمها واستبدالها بناطحات سحاب أكثر ربحاً.
وقال: "كان يقول الكثير من الناس إن البلدية ستحاول هدم المباني بحجة أنها على وشك الانهيار"، مضيفاً: "ستكون بالتأكيد معركة للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه".
وكان قصر سرسق قد بني عام 1860، حيث تم ترميمه بعد أكثر من 20 عاماً من انتهاء الحرب الأهلية. تسبب الانفجار في تدمير الجزء الداخلي للقصر المؤلف من ثلاثة طوابق.
وكانت قد انهارت الأسقف الخشبية العثمانية المزخرفة، تاركة المفروشات العتيقة محطمة ومدفونة تحت الخشب والأنقاض والزجاج. ويقول أصحابه إنه لا جدوى من محاولة إصلاح الضرر بينما يظل القادة الفاسدون أنفسهم في السلطة.
لكن يتطلع بعض الناس بالفعل إلى الأمام، قائلاً: "هناك شعور بالتضامن.. لدينا شعور بأننا جميعاً في هذه الورطة معاً".
وبالعودة إلى متحف سرسق، تجمع عريضة القطع المتناثرة لعمل الفنانة سيمون فتال، التي لربما أرادت استخدامها في خلق شيء جديد، كما عرضت استخدام مساحات التخزين في المتحف للمؤسسات والفنانين الآخرين.