دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تؤطّر حوافٍ من خشب الأرز العنّابي اللون 700 نافذة غير متطابقة، لتشكيل واجهة مزخرفة بألواح زجاجية، منتصبة قبالة قمم جبال، وبساتين مترامية دائمة الخضرة.
وأقل ما يقال عند رؤية واجهة مبنى "مركز كاميكاتسو صفر نفايات" (Kamikatsu Zero Waste) أنّها مثيرة للدهشة، وما يبعث على الدهشة أكثر أنّها مبنيّة من القمامة.
ويقع المركز الذي يأخذ تصميمه شكل حدوة حصان، عند منعطف على الطريق السريع المحاذي لضفاف نهر كاتسورا، في بلدة كاميكاتسو الجبلية النائية جنوب اليابان. وافتُتح عام 2020، وسط جائحة "كوفيد-19"، وأصبح قلب هذا المجتمع الجديد.
وقال هيروشي ناكامورا، المهندس المعماري الأول للمشروع ومؤسّس شركة "NAP Architectural Consulting"، إنّ هذا المركز الجديد يحلّ مكان "الكوخ الجاهز" السابق حيث كانت تُفرز القمامة، بهدف مساعدة البلدة على تحقيق هدفها الطموح المتمثّل بصفر نفايات بنسبة 100٪.
وفاز المبنى بجائزة معهد العمارة الياباني السنة الفائتة، ويأمل المجتمع المحلي، جرّاء الاهتمام المتزايد بالمدينة، أن يتمكّن من جذب سكان جُدد حريصين على البيئة لزيادة عدد السكان الذي يشهد تراجعًا.
وأشار ناكامورا إلى أنّنا "أردنا أن نجعل من هذا المركز مبعث فخر لأهل البلدة".
مبنى يقوم على الذكريات
بدأ ناكامورا وفريقه في تصميم مركز صفر نفايات بالتشاور مع سكان كاميكاتسو، في أبريل/نيسان 2016.
وغالبية المواد المستخدمة محلية أو أُعيد تدويرها، وتم اختيار خشب الأرز من الغابات المحيطة لإنشاء الهيكل الداعم والهيكل الأولي للمبنى، إذ أن بلدة كاميكاتسو اشتهرت بصناعة الأخشاب حتى سبعينيات القرن المنصرم، ذلك أنّ منافسة الخشب المستورد ذات الكلفة الأدنى تسبّب بتراجع هذه الصناعة.
ولفت ناكامورا إلى أنّ استخدام المواد المحلية ساعد في تقليص استهلاك الوقود الناجم عن النقل والتعبئة، بالإضافة إلى استخدام عنصر رئيسي مرتبط بتاريخ المدينة. وتُرك الخشب بشكله الخام المستدير بدلاً من تقطيعه إلى عوارض أو ألواح مربعة، بهدف تقليل النفايات بشكل أكبر.
أما في ما يتعلق باستكمال الهيكل والهندسة الداخلية، فكل المواد المستخدمة أُعيد تدويرها تقريبًا. بيد أنّ إنشاء مبنى من القمامة ليس بالمهمة السهلة.
وقال المهندس المعماري لـCNN: "بالعادة نضع التصميم بداية، ثم نطابق المواد الجاهزة على نحو يتناسب معه". لكن، آلية وضع التصاميم استغرقت أكثر من عامين، بعدما حصلنا على كل القطع وركبناها معًا مثل قطع الأحجية.
وأوضح ناكامورا أنّ بعض العناصر، مثل المواد المستخدمة لبناء السقف، ومعادن العزل المائي، والمسامير، وبراغي المفاصل، وصولًا إلى أدوات مثل تكييف الهواء، ومثبتات الأنابيب، يجب أن تكون جديدة لضمان الامتثال لقوانين البناء ومعايير السلامة.
ورغم ذلك، فإن الحد من كمية الموارد الجديدة يساعد في تقليل أثر المبنى البيئي، وكلفته التي قدّر ناكامورا أنها كانت ستتضاعف من دون استخدام المواد المُعاد تدويرها.
وأوضح ناكامورا أنّ فريق العمل تمتّع بسعة الحيلة، إذ طُلب من المصنّعين الحصول على مواد وأدوات يرغبون بالتخلص منها لأنها فائضة عن حاجتهم، أو غير مكتملة، مثل بلاط يشوبه عيب.
كما أنهم استعانوا بممارسات "العمارة التشاركية" الخاصة بالمشروع، المستندة عادة إلى التشاور مع السكان بشأن ماذا يريدون، أو الهدف من المبنى. وقال ناكامورا إن مركز صفر نفايات ذهب أبعد بهذا المفهوم، من خلال استخدام مواد تبرّع بها سكان المدينة البالغ عددهم 1453 نسمة، لتشييده.
كما تمّ تحويل الزجاج المكسور والفخار إلى بلاط، وصناديق حصاد الفطر التابعة لمزرعة محلية إلى رفوف كتب، وسرير غير صالح للاستخدام لدى دار رعاية للمسنين إلى أريكة.
أما بالنسبة إلى واجهة المبنى المدهشة، فجمّع السكان نوافذهم القديمة، وبعضها أُخذ من مبانٍ مهجورة.
وأوضح ناكامورا إلى أنّ "هذا المبنى استُخدمت في عملية بنائه ذكريات سكان البلدة، لذا فثمة رابط قوي يجمعهم به".
مدينة خالية من النفايات
وتقع بلدة كاميكاتسو بين الجبال الوسطى على جزيرة شيكوكو، وتبلغ مساحتها الشاسعة 109 كيلومترات مربع تقريبًا. وتتوزّع مجتمعاتها على امتداد الطريق السريع المتعرّج الذي يتبع منحنيات نهرَي أساهي وكاتسورا، عبر وديان ومنحدرات جبليّة تغطيها أشجار الأرز.
وقالت مومونا أوتسوكا، كبيرة مسؤولي البيئة في مركز كاميكاتسو صفر نفايات، التي انتقلت للعيش في المدينة عام 2020، إنّ الموقع النائي للبلدة الذي يبعد ساعة بالسيارة عن أقرب مدينة، يعني أنّها لطالما تمكّنت من إدارة نفاياتها، ولديها ثقافة قوية في مجال إعادة التدوير.
وفي عام 1998، استبدلت المدينة أسلوب حرق النفايات في الهواء الطلق بمحرقة، لكن الانبعاثات احتوت على مستويات غير آمنة من الديوكسين السام، فأغلقت بعد فترة وجيزة.
ومن ثم في عام 2003، أعلنت بلدة كاميكاتسو عن "بلاغ صفر نفايات"، الذي تصدّر عناوين الصحف كأول منطقة في اليابان تتعهّد بذلك. ومع مرور الوقت، طوّر سكان كاميكاتسو نظام إعادة تدوير يتألّف من 45 فئة، ساعدهم على تحقيق معدّل إعادة التدوير بنسبة 80٪ اعتبارًا من عام 2016، مقارنة بـ 20٪ في أنحاء اليابان كافة، عام 2019، بحسب أحدث الأرقام الصادرة عن الحكومة اليابانية.
لكن الوصول إلى الصفر الحقيقي للنفايات، الذي كان الهدف الأساس لتحقيقه عام 2020، صعب، بحسب أوتسوكا لأنّ "بعض أنواع النفايات، مثل الحفاضات، والكمادات الحرارية المستخدمة لمرة واحدة، يصعب جدًا إعادة تدويرها، عدا عن كلفتها المرتفعة".
وأضافت أنّ مركز صفر نفايات مصمم لمعالجة هذه المشكلة. ويسهّل النظام الأحادي الاتجاه المتّبع داخل المركز، الموزّع على أقسام، عملية إعادة التدوير. فثمة قسم لفرز القمامة وتجميعها، وآخر لإعادة التدوير، وغرفة تعليمية، ومتجر يديره المتطوعون تجد فيه منتجات مجانية قابلة لإعادة الاستخدام مثل الملابس والأطباق، كما يتمُّ التبرّع بالكتب، والأجهزة الإلكترونية من قبل السكان. أمّا أي شيء لا يمكن إعادة تدويره فإنه يُجمّع ويُرسل إلى محرقة، أو مكب النفايات التابع لأقرب مدينة، توكوشيما.
لكنّ الهدف من المركز ليس فقط مساعدة البيئة، بل هو مخصّص أيضًا للناس، من خلال الاعتماد على أماكن عامة في التصميم الأساسي، حتى يكون مركزًا مجتمعيًا للمدينة المترامية الأطراف. ويتردّد عليه السكان عادةً مرة أو مرتين أسبوعيًا.
وإسوة بأماكن عديدة في اليابان، فإن معدّل الحياة يتقدّم في هذه المدينة، ويتراجع عدد السكان. لذا تطمح كاميكاتسو إلى جذب السكان الأصغر سنًا الذين يرغبون بالعمل في البلدات والمدن الكبيرة. ويُعوَّل كثيرًا على أن تجذب المدينة الصديقة للبيئة بعض القاطنين الجدد الذين يسعون إلى اختبار أسلوب حياة أكثر استدامة، على غرار أوتسوكا التي ترى أنًّ هناك فرصة للنمو من خلال السياحة البيئية، لا سيّما أنه تمّ تعزيزها من خلال افتتاح فندق صغير تابع لمركز صفر نفايات في مايو/أيار 2020.
والتغطية الإعلامية التي احتفت بهذا المبنى كان لها أبعد الأثر على سكان هذه البلدة الذين شعروا بالفخر. كما أن المركز جذب السيّاح، واستقبل في عامه الأول، 5 آلاف شخص، وأقام 1200 زائر في الفندق، رغم جائحة "كوفيد-19".
مبنى قابل لإعادة التدوير
وتُعتبر المباني المشيدة من المخلّفات بمثابة أمر غير مألوف، لكنه ليس فريدًا من نوعه. وكانت إعادة تدوير "مركز كاميكاتسو صفر نفايات" ضمن أساسيّات وضع تصوّره.
وأضاف ناكامورا أنّ "مفهوم صفر نفايات لا يتعلق بالتخلص النهائي من النفايات، إلا أنّنا بحاجة إلى التفكير في كيفية التخلص منها منذ البداية".
وخلص إلى أنّ "تصوّري وطريقة تفكيري للنفايات تغيرت 180 درجة"، مشيرًا إلى "أنّني تعلّمت أهمية ابتكار تصاميم جديدة وتوريثها الذكريات".