دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- غروب الشمس، أو معزوفة أوركسترالية رائعة، أو لوحة مدهشة.. يعتقد الخبراء أن البحث المستمر عن هذه التجارب المذهلة التي تصيبك بالقشعريرة أو تؤثر بك حدّ ذرف الدموع، قد تمنحك حياة أكثر سعادة وصحة.
ويشعر الناس بالرهبة في حضرة الطبيعة والدين والموسيقى، وعبر مشاهدة الفنون البصرية أو الهندسة المعمارية أيضًا. ولفت الدكتور داشر كيلتنر في لقاء مصور له مع CNN إنّنا نشعر بذلك تحديدًا عندما "نواجه أمورًا هائلة أو تتجاوز إطارنا المرجعي، التي لا نجد لها تفسيرًا وتكون غامضة بالنسبة إلينا". وتابع: "ومن ثم فإن هذه الأنواع من التجارب تثير فينا حب التساؤل، والتأمل، والخيال".
ويدرس كيلتنر المشاعر الإنسانية منذ عقود. وهو أيضًا أحد مؤسسي ومدير مركز غريتر غود ساينس في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، وهو معهد أبحاث يبحث في الأسئلة المتعلقة برفاهيتنا الاجتماعية والعاطفية. ويستكشف كتابه الأخير، "الدهشة: العلم الجديد للعجائب اليومية وكيف يمكنها تغيير حياتك"، الفوائد الاجتماعية، والجسدية، والعقلية، لهذه المشاعر القوية.
ويقارب كيلتنر الرهبة جزئيًا من منظور أنثروبولوجي، ويستكشف كيف تُشكّل هذه المشاعر نسيجنا الاجتماعي. وقال "كنوع، نحن مترابطون للغاية، لكن التحدي المركزي للشبكات الاجتماعية الصحية، يمثّل أمرًا حيويًا لصحتنا، ألا وهي المصلحة الذاتية الجامحة".
ويناقش قوة الدهشة بأنها تحفزنا على رؤية ما وراء رغباتنا. وعبّر عن ذلك بقوله إنها "تُهدّئ صوت الذات"، وبالتالي "تجعلك تتشارك أمورًا وتتعاون مع الآخرين". وفي الآونة الأخيرة، توصلت دراسة بجامعة هارفارد استمرت لعقود، إلى وجود صلة قوية بين الروابط الشخصية الوثيقة وسعادتنا وصحتنا عمومًا.
لكن هل العثور على الدهشة من خلال الفن بسيط إسوة بالنظر إلى لوحة جميلة؟ ويرى كيلتنر أنّ الإجابة معقدة.
وفي عام 2017، شارك بوضع دراسة تحدّد المشاعر المبلّغ عنها ذاتيًا لأكثر من 850 مشاركًا شاهدوا أكثر من 2000 مقطع فيديو قصير. وقام الباحثون بتصنيف 27 عاطفة، بعضها كانت تحدث بشكل مشترك، وبالتالي اعتبرت مرتبطة.
ووجدت الدراسة أنّ الشعور بالدهشة كان شعورًا مميزًا يختلف عن الجمال، رغم أنه غالبًا ما يتم الإبلاغ عنه بالتوازي مع "الإعجاب" و"التقدير الجمالي". وخلُص كيلتنر إلى أنه من المهم، وإن كان من الصعب، التمييز بين المنبّهات الجميلة ببساطة وتلك التي تميل إلى إثارة الرهبة.
وأضاف أنّ تفكر بالجمال على أنه أمر مألوف. عندما ننظر إلى الفن الذي يتلاءم وفهمنا للعالم، مثل لوحات المناظر الطبيعية الريفية للتلال المتدحرجة، فإننا ندرك أننا نرى الجمال. لكنّ يرى كيلتنر أنّ الفن المذهل يحدث "عندما يخالف التوقعات، عندما تكون الأمور في غير مكانها، أو تنقلب رأسًا على عقب". وخلافًا للجمال، فإن الدهشة مربكة وغامضة.
ورغم ذلك، فإن قيمة الصدمة ليست كافية. وفي الدراسة عينها التي أجريت عام 2017، فإنه نادرًا ما نشعر بالدهشة بالتوازي مع مشاعر الاشمئزاز، أو الرعب، أو الخوف، أو القلق. وفي الأساس، ما يفصل بين الدهشة والصدمة أن الأولى تدعونا للتعلم والتطور.
ويعني هذا الفارق الدقيق أنه قد يصعب أحيانًا التعرف إلى مشاعر الدهشة لدى ظهورها. لذا يقترح كيلتنر أخذ ملاحظات دقيقة عن المحفزات المختلفة، مثل اللوحات، والموسيقى، أو الظواهر الطبيعية، وتحليل ما تشعر به.
وسأل: "هل تشعر بالهدوء، هل تشعر بالتواضع؟"، ثم تابع أن "جميع دراساتنا تُظهر أن إحساسك بالذات يتراجع إلى خلفية الوعي فيما تستوعب هذه التجربة الإدراكية. وربما تكون "الذات الصغيرة" أحد العناصر المحددة للدهشة.
فن العجائب
وأشار كيلتنر إلى أنّ إثارة الدهشة تشكّل تحديًا للفنانين لأنّ "إبهار الناس أمر، والإشارة جماليًا إلى فكرة جديدة أمر آخر".
وتنظر الفنانة صفاء كلاين إلى العلم والفن على أنهما متناغمين. وقالت إنه فيما يُنظر إلى أحدهما على أنه موضوعي والآخر شخصي للغاية، فإن "آليّتهما متشابهة للغاية. وهما وسيلتان لإيصال المعلومات للناس".
وفي معرضها الجديد "WEBs: here Everything Belongs"، الذي افتُتح في مدينة نيويورك الأمريكية الأربعاء، تستخدم كلاين مواد تشمل البزموت المنصهر (عنصر نادر أكثر من الذهب)، والزجاج المنسوج، والجص والأكريليك، حيث تدعو المشاهدين لطرح أسئلة ميتافيزيقية عن الوعي الإنساني وتموضعنا في الكون.
وتأمل أنه، حين يبتعد الجمهور عن أعمالها متعددة الوسائط الإعلامية يتملكهم إحساس بالمعنى، وإدراك بأن "كل شيء مرتبط بإنسانيتنا على نحو وثيق، ليس فقط على نطاق الجسيمات، لكن على النطاق الاجتماعي أيضًا".
ومن خلال فنها، تحاول إيصال دهشتها الشخصية للجماهير. وبهدف القيام بذلك، تلعب بالمقياس، بالمعنى الفني والعلمي. وبالاعتماد على النطاق الكوكبي الواسع لعلم الفلك والفيزياء الفلكية، وكذلك ضمن الأبعاد المجهرية لميكانيكا الكم، تسعى كلاين جاهدة لتشكيل فضاء يمكن للمشاهدين فيه الوصول إلى لحظات الدهشة الخاصة بهم.
ويضمّ عملها خطوطًا مشعة ولوالب متكررة، ما يثير إحساسًا بالحركة ويجذب المشاهد. وتنبعث حزم ملونة شديدة السطوع مثل أشعة الليزر من المراكز العاكسة للوحات القماش مثل صاعقة الإلهام. ومن بعيد، يمكن للجمهور أن يقدر ديناميكية الانفجارات النجمية المجردة، لكن كلما اقتربوا، يمكنهم الإعجاب بالبقع الصغيرة من المعدن التي تشبه الخلايا الموجودة تحت المجهر.
وقالت "الدهشة يُنظر إليها من خلال تجاوزك أمرًا آخرًا، وتجد السلام والجمال والإعجاب في هذه الحقيقة". وأضافت: أنه "إدراك أنك بمجرد تجاوزك لمقياس معين، فإن كيانك كما عرفته، يتوقف عن الوجود". وإسوة بمفارقة كيلتنر عن الذات الصغيرة، تطلق كلاين على هذه التجربة اسم "موت الأنا" المجازي.
وبدلاً من الرهبة الوجودية ، تجد كلاين الراحة في ذلك التجريد والغموض. وأوضحت أنه عندما يدرك الناس حدود فهمهم، فإنهم "يمكنهم الشعور بأنهم ينتمون إلى شعور أكبر بالنظام في العالم".
الإبداع والفضول والمشاركة المدنية
وتظهر الأبحاث أن الدهشة والتساؤل يحسنان السلوك الاجتماعي الإيجابي من خلال مساعدة الناس على الشعور بأنهم يشكلون جزءًا من شيء أكبر منهم. وعاينت إحدى الدراسات تصرفات الناس بعد قضاء الوقت في بستان من الأشجار العملاقة دائمة الخضرة.
وأظهر المشاركون الذين أمضوا دقيقة واحدة في النظر إلى الأشجار ميلًا متزايدًا إلى مساعدة الآخرين. وتوصلت دراسة أخرى إلى أنّ استهلاك الفن وإبداعه، سواء كان ذلك في الموسيقى أو من خلال الفن البصري أو الأدب، يرتبط بزيادة التعاطف والمشاركة المدنية.
وهناك مجموعة من المزايا الأخرى التي تجعل الدهشة، على حد تعبير كيلتنر، بمثابة "حالة جيدة جدًا كي تكون فيها". ووجد هو وعلماء آخرون أن الدهشة كانت بين المشاعر الإيجابية المرتبطة بالتهابات أقل في الجسم. كما ثبت أن الدهشة تعمل على تهدئة نظامنا العصبي الودي، الذي ينشط عندما نشعر بالتوتر، ما يزيد من معدل ضربات القلب وضغط الدم.
وقد تكون هناك فوائد عقلية للذهول أيضًا، وتحديدًا تقليل التوتر والقلق. ويقول كيلتنر إنّ الأشخاص الذين يعانون من التساؤل يميلون إلى إيجاد إحساس أكبر بالرفاهية والهدف في حياتهم. وهذا بدوره يجعلهم أقل انتقادًا لأنفسهم. كما أنه يرتبط بمزيد من الإبداع والفضول.
ولفت كيلتنر إلى أنّه حتى يشعر الناس بالمدى الكامل لهذه الفوائد، من المهم أن يبحث الناس عن الدهشة في حياتهم اليومية، حتى لو لم يكن لديهم إمكانية للوصول إلى صالات العرض أو قاعات الحفلات الموسيقية، أو قمم الجبال، أو غروب الشمس على ضفاف البحيرة. وأضاف أن مجرد النظر إلى الفن على الإنترنت قد يُحدث فرقًا.
وفي عام 2021، اشترك كيلتنر وباحثون آخرون بـ"Google Arts and Culture" لرسم خريطة للعواطف التي أبلغ عنها المستخدمون عند النظر إلى 1500 عمل فني مختلف عبر الإنترنت. وبين هؤلاء، أفاد المشاركون أن حوالي 60 عملاً فنيًا جعلهم يشعرون بمستوى من الدهشة. وكانت الكلمات الأخرى التي اختاروها لوصف هذه الأعمال "غامضة" و"ملفتة للنظر" و"كونية" و"روحية" و"ترابط حميم".
وخلص إلى أنه يجب "البحث عن الأمور التي تتحدى مقياسك، سواء كانت صغيرة أو هائلة"، أي شيء من نمط تم إنشاؤه بواسطة الزهور بالقرب من الرصيف، وصولًا إلى صورة ظلية لأفق مدينتك أثناء تنقلاتك.