دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- بعد التمعّن للمرة الثانية، بلوحة "غرفة العائلة" حتى لاحظت طفلان صغيران ينقّبان في قايا القمامة. كان ذلك تحت لافتة باهتة تعلن إحياء حفل حي يضم "دي جي" و"كوكتيلات" و"ترفيه"، ويمهد سياج مرسوم بأسلوب الغرافيتي أسفلها، الطريق لرؤية أكوام من عجلات الدراجات، والملابس المهملة، وقطع التكنولوجيا المكسورة وبعض الستائر.
مشهد التلاشي والزوال، جسدته لوحة للفنان ساير غوميز المقيم في لوس أنجلوس، والمعنونة "غرفة العائلة"، تجمع عناصر متباينة من مسقط رأسه بأسلوب تصويري واقعي مقلق. يشكل العمل جزءًا من معرضه الفردي "Heaven N' Earth" في صالة العرض الرئيسية لتاجر الأعمال الفنية كزافيه هافكينز Xavier Hufkens في بروكسل، بلجيكا، حيث يستكشف الثنائيات المعقّدة للمشهد الحضري.
وقال غوميز لـCNN، إنّ لوحته مستوحاة من عائلة حقيقية تعيش في أحد المخيّمات المؤقتة وعربات سكن متنقلة من جهة الطريق المقابلة للاستوديو الخاص به: "في الغالب، أحتفظ بالشخصيات خارج اللوحات، لذلك كان قرارًا صعبًا بإدراجها. الطفلان (المصوران) في تلك اللوحة هما طفلاي، لكنهما كانا البديل في هذه الوضعية".
إنها نقطة بداية مقلقة للغاية لمعرض يمتد على أربع طبقات، حيث يقارن بين شواطئ كاليفورنيا، وغروب الشمس، والأفق المتلألئ، مع آلات البناء الضخمة، والسيارات المهجورة، وعربات التسوّق التي أُضرمت فيها النيران.
يشير المعرض إلى أنّ "غوميز يكرّس اهتمامه لتقنيات البقاء المادي والثقافي التي تمّ التخلي عنها في أعقاب التطور الرأسمالي، مع التزام صادق بتوثيق آثار التجربة الحياتية على أنقاض تراجع التصنيع".
أو بحسب ما يرى هوفكينز الذي عرض أعمال غوميز لأول مرة في بروكسل عام 2021: "باتخاذ مشاهد عادية من جنوب كاليفورنيا كموضوع له، يقدم لنا غوميز لمحات عن التجربة الإنسانية وسط التغيير المجتمعي".
وقال الفنان البالغ من العمر 42 عاماً، والذي كان يرتدي سترة ويشرب القهوة، إن "نتاجي الفني أصبح أكثر قتامة على نحو مستمر خلال السنوات القليلة الماضية"، مشيراً إلى أنّ هذا التحوّل "تزامن مع كوني أباً".
وأضاف: "من جهة، أدخل نوعًا من الفكاهة من خلال الأيقونات التي ينغمس فيها الأطفال"، غامزًا بذلك إلى شيطان تسمانيا في لوني تيونز الذي يبدو أنه على وشك التأرجح عبر باب زجاجي في إحدى اللوحات، والألعاب المحشوة المحبوبة المصطفة على طول حافة النافذة في مكان آخر. لكنه أكد أنّ "الطابع العام الغالب مشؤوم أكثر بكثير. من الصعب أن نبقى متفائلين".
قد تشير لوحة "أضواء، كاميرا، أكشن" إلى بريق وسحر هوليوود من عنوانها، غير أنّ تصوير خيمة مضاءة يسلط الضوء على حقيقة أن عدد السكان القاطنين من دون مأوى ويعيشون في خيم بلوس أنجلس زاد بنسبة 9٪ بين عامي 2022 و2023، بحسب هيئة خدمات المشردين في لوس أنجلس (LAHSA). ولفت غوميز إلى أنه "لا يمكنك عدم رؤيته. عندما انتقلت لأول مرة إلى لوس أنجلوس في عام 2006، كان (التشرد) موجودًا نوعًا ما في Skid Row، لكن هذه الظاهرة باتت منتشرة في كل جزء من المدينة الآن".
عدم وضوح الخط الفاصل بين الواقع والخدعة
نشأ غوميز في شيكاغو وانتقل إلى لوس أنجلس عام 2006، للدراسة في معهد كاليفورنيا للفنون. لم يجد موضوعه في مكان سكنه الجديد فحسب، بل اكتشف أيضًا أسلوبه المميز في الرسم الواقعي للغاية، المتأثر بالفنانين المحليين مثل إد روشا وجاك غولدستين، فضلاً عن الصناعات الإبداعية في المدينة.
من خلال العمل مع فريق من المساعدين، يقارن أساليب الإنتاج الخاصة به بـ"استوديو أفلام هوليود، أو دار دعم صغيرة جدًا ومصغرة". وأوضح غوميز أن اللوحات تبدأ على شكل مجموعات رقمية يتم إعادة إنشائها بعد ذلك على القماش باستخدام البخاخة المادية، وهي تقنية "تم اختراعها كوسيلة لتنقيح الصور، ولكن تم تنفيذها أيضًا في خلفيات الأفلام وملصقات الأفلام والترويج"، مضيفًا أن "ثمة أمر خادع في تسطيحها".
إنها لوحات تطمس الخط الفاصل بين الواقع والخدعة، وغالبًا ما تتضمن تأثيرات رقمية (مثل المناطق المنقطة) تم إنشاؤها بوسائل تناظرية. قال غوميز: "هذا النوع من الواقع الزائف المعاد بناؤه أمر مترابط للغاية. إنّه حقيقي في بعض النواحي، لكنه يشكّل أيضًا جزءً من خيال أكبر".
تلعب المنحوتات أيضًا دورًا في هذا الانقسام. "الوعد"، على سبيل المثال، عبارة عن إعادة إنشاء لمحطة شحن السيارات الكهربائية، مطبوعة بتقنية ثلاثية البعد من قبل المصنّعين الذين يعملون مع شركة الإنتاج السينمائي والتلفزيوني لوكاسفيلم حتى تبدو محترقة ومنصهرة.
وفي الوقت عينه، تعتمد "Scale Replica of the Past, Present, and Future (Peabody Werden House)" على منزل من طبقة واحدة على الطراز الفيكتوري، بني عام 1895 في ضاحية Boyle Heights "للطبقة العاملة ولكنها ترتقي الآن". تم إنقاذ العقار في الآونة الأخيرة من الهدم، من قبل دعاة الحفاظ على التراث، وتم سحبه بواسطة حفار إلى قطعة أرض فارغة عبر الشارع في عام 2016. وروى غومير أنه "ما زال قائمًا هناك، على ركائز متينة". وقد استأجر الفنان مصممًا من هوليوود لإنتاج القطعة التي تشبه بيت الدمى، والتي تُعرض في بروكسل محاطة بلوحات لغروب الشمس المثالي في لوس أنجلوس، والتي اشتراها منذ ذلك الحين متحف فورليندن في هولندا.
كما أضاف متحف "برود" في لوس أنجلوس أخيرًا أعمال غوميز إلى مجموعته. وتشارك لوحات "الألماس واللؤلؤ" و"العالم الواسع كله منزل مسكون" (التي تصور تباعًا لافتات صالون الأظافر ومركز تجاري مهجور) في معرض المتحف الجديد "الرغبة والمعرفة والأمل (مع الضباب الدخاني)"، وهو معرض جماعي للفنانين المقيمين في لوس أنجلوس بعنوان مستوحى من الفنان الأمريكي المفاهيمي الراحل جون بالديساري.
وأوضح إد شاد، أمين معرض The Broad أنّ "أحد الأمور التي جلبها ساير غوميز إلى المعرض تركيزه على لوس أنجلوس كما هي، عوض وضع إسقاطاته على هذه المدينة، وهو أمر ليس من السهل القيام به كما يبدو". وتابع: "رغم أنّ عمله يعتمد على لحظات واقعية للغاية، سواء كانت سلة مهملات محترقة أو موقع بناء، إلا أنه يبدو سرياليًا تقريبًا. والمدينة، بمبانينا وشركاتنا الفارغة ومشكلة السكن الكبيرة التي نعاني منها، تقدم نفسها كحقيقة غريبة تكاد تكون من الخيال العلمي".
في الوقت عينه، يزدهر المشهد الفني في لوس أنجلوس، وهي نقطة تطرق إليها غوميز في معرض Xavier Hufkens، حيث ضمّن معرضه سلسلة من اللوحات للأبواب الزجاجية (كل منها بعنوان "ما كان ينبغي علي فعله ولم أفعله") لوحة تطل على الأجزاء التي كانت متهالكة من المدينة وأصبحت الآن مأهولة بالمعارض العالمية بما في ذلك ديفيد زويرنر.
ولكن في خضم هذه الرواية المشؤومة، يعترف غوميز بأمر يشبه قصة حب، فهو لا يستطيع أن يتخيل نفسه يعيش ويعمل في مكان آخر.
قال: "أعني أنني أخرج من الباب وأقول: يا إلهي، هذا محبط. لكن كاليفورنيا جميلة جدًا أيضًا. إنه لأمر غريب".