أول مرة في فرنسا... هل أصبحت باريس "الأرض اللي بتتكلم عربي"؟

سياحة
نشر
4 دقائق قراءة
تقرير سامية عايش
بالصور... من يومياتي الباريسية
Samya Ayish
6/6بالصور... من يومياتي الباريسية

حين تدخل كنيسة عريقة مثل كنيسة نوتردام، تدرك أن هذا الجهاز الذي تحمله في يدك (الكاميرا) يعطل عليك سير الحياة الطبيعية. فأنت وهو في يدك تضيع على نفسك فرصة ذهبية بالتدقيق في تفاصيل الجمال من حولك. لا تبالغ في استخدامها، فعينك هي الكاميرا الأحلى!

تذكرون أغنية "الأرض بتتكلم عربي" لسيد مكاوي؟

خوف صغير سكنني على متن رحلتي المتجهة إلى باريس. أعرف فخر الفرنسيين بلغتهم، وإصرارهم على أن يتحدث زوارهم بهذه اللغة الموسيقية. ومن باب أن لغتي الفرنسية "على قدي"، خفت!

ولكن...

بعد المشي لمسافات طويلة، في الشوارع الرئيسية وفي الأزقة، اكتشفت أن لباريس وجها غير الذي سمعت عنه، وجها تغيرت ملامحه. وفي المسافة الممتدة بين برج إيفل، وقوس النصر، وشارع الشانزيليزيه، ومنها إلى الكونكورد ومتحف اللوفر، لا يمكن إلا أن تميز الصوت العربي المتواجد في شوارع فرنسا: من الشباب القادمين من شمال أفريقيا، إلى العائلات السورية ميسورة الحال، وحتى بعض الشباب السعوديين الذين فوجئت بأنهم يقطنون في باريس منذ سنوات طويلة، إلى فاقدي البيت الوطن، ممن افترشوا الأرض طالبين الصدقة، ومبادرين بكلمة "السلام عليكم."

ظننت لوهلة فور وصولي أنني سأكون "الغريبة في مدينة غريبة"... ولكن لم يبد الأمر كذلك:

على باب مطعم مغربي يقدم الكسكس، يقف شاب في مقتبل العمر، يدعو المارة للدخول. لوح لي بيده، وقال لي بالعربية: "عنا أطيب أكل ممكن تذوقينه... تفظلي"...

سألته مبتسمة: كيف عرفت أنني عربية؟

قال لي: أختي... يبدو أن الدم يحن لبعضه.

المدينة التي بنيت متأثرة بتاريخ طويل من الحضارات والفنون، بدت جميلة ولكنها أيضا مرهقة، وتعبة، ولا تتسع كل من فيها.

في الطريق المحاذي لبرج إيفل، رجل قصير يرتدي بدلة بدت قديمة بعض الشيء.. ابتسم لي من بعيد، ورفع يده قائلا: speak Arabic؟ (بدأت أشعر في تلك اللحظة أن كلمة "عربية" مطبوعة في مكان ما على جبيني، ولكنني فخورة أيضا أن لا أحد يمكن أن يخطئ ملامحي العربية)

هززت رأسي بالإيجاب، اقترب مني وبدأ يحدثني عن المدينة وعن السنوات الـ٢٥ التي قضاها فيها، وقال لي: أحب هذه المدينة ولكني أخاف على شخصين منها.. المريض والطالب العربي... فهي ظالمة لهما. أما السائح والقادم في رحلة للعمل، فلا قلق عليهما، لأنهما يأتيان بما يكفيهما للاستمتاع بوجهها الطيب.

السير في مدينة كباريس يعلمك فن الصمت والاستمتاع بالاستماع. تدقق في وجوه الناس من حولك، فتلحظ ذلك التنوع، ولكنه تنوع مؤقت، سيتغير بمجرد انتهاء موسم السياحة، ولكن ما سيبقى هو تلك الحصيرة الصغيرة التي فرشت على جانب الطريق، وجلس عليها رجل وسيدة تبدو ملامحهما عربية، قد يحملان طفلا صغيرا، وقد لا يحملان، يضعان أمامهما كأسا من "ماكدونالدز" عل أحدا يرمي لهما بقطعة نقدية. هذه الإنسانية التي رميت على جانب الطريق!

فكرت في نفسي... من قال إن الحياة خالية من الصدف؟

الصدف هي التي تخلق الحبكة في حياتنا وتجعل منها أكثر اثارة، بل وتسحب الأفكار من أعماق ذاتنا، لنفكر في واقعنا اكثر وأكثر.

في ذلك الشارع الباريسي نفسه، الصخب يعم كل الأرجاء من حولي. وعلى نقطة واحدة وفي لحظة واحدة حصلت الصدفة:

انا ... ومن خلفي مر شابان يحملان علبتين من البيتزا وزجاجة نبيذ، وعلى الارض تجلس عائلة سورية ينادي الرجل فيها مادا يده طالبا الصدقة... "السلام عليكم"..

لكم ان تتخيلوا المشهد: غريبة تسير في مدينة صاخبة تشهد في نفس اللحظة التناقض بكل صوره.. الدفء والبرد... الجوع والشبع... الأسى والراحة.. المنزل والغربة... الاستقرار والمجهول...  والاهم: الوطن واللاوطن!

ثلاثة أيام كافية لتشعر أن باريس جزء منك، وأنها قد تكون من المدن التي ستُسأل في آخر الزمان عنها: هل زرتها أم لا؟ ثلاثة أيام كافية بأن ترى بعدا آخر للمدينة غير البعد الساحر، والكلاسيكي، والحضاري، والتاريخي. ثلاثة أيام كافية لتستنتج بأن الأرض ما عادت غريبة... بل أصبحت "بتتكلم عربي".

 

 

  • سامية عايش
    سامية عايش
نشر