دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- بتاريخ 4 أبريل/نيسان من عام 1955، توافد حشد كبير من الناس إلى ميناء كيلونج في تايوان لحضور حدث رافقه إشعال المفرقعات النارية، وفتح زجاجات الشمبانيا، وإلقاء الخُطَب.
وكانت الأجواء الاحتفالية أمراً نادراً في تايوان آنذاك، إذ كانت الجزيرة في وسط أزمة مضيق تايوان الأولى ضد الشيوعيين في بر الصين الرئيسي، بينما استمرت آثار الحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية.
وجاء السياسيون، ووسائل الإعلام، والمقيمون في مدينة كيلونج لتوديع "Free China"، وهي سفينة خردة عمرها نصف قرن، وطاقمها المكوّن من 6 أفراد.
ومنح حاكم تايوان القارب اسمه، وهو إشارة إلى المعركة الجارية مع البر الرئيسي.
وكان القارب الصغير، الذي يحمل اسماً سياسياً، على وشك الإبحار عبر المحيط الهادئ للتنافس في سباق دولي لليخوت، وهو مُحمّل بآمال وأحلام أفراد الطاقم، ومسانديهم.
وكان من المقرر أن يبدأ السباق على الجانب الآخر من العالم، بدءاً من نيوبورت في رود آيلاند بالولايات المتحدة، لينتهي في جوتنبرج بالسويد.
ولكن، كانت هناك مشكلة واحدة فقط.
وما لم يدركه المحتفلون في ميناء كيلونج هو أن أفراد الطاقم الصينيين الخمسة، ونائب القنصل الأمريكي الذي انضم للرحلة في اللحظة الأخيرة، لم يعرفوا كيفية الإبحار بقارب خردة.
العقل المدبر للرحلة: بول تشاو
وكان بول تشاو، البالغ من العمر 94 عاماً الآن، العقل المدبر للرحلة.
ونشأ تشاو، وهو أستاذ فيزياء متقاعد في جامعة ولاية كاليفورنيا، في أسرة ثرية نسبياً في الصين، وكان والداه من بين القلائل الذين تمكنوا من تلقي تعليمهم بالولايات المتحدة.
وفي عام 1941، ومع اندفاع الجيش الياباني إلى المنطقة، أخذت والدة تشاو أطفالها الأربعة، وانتقلت من هونغ كونغ إلى بر الصين الرئيسي.
وقال تشاو في مقابلة مع CNN: "كان جميع أقاربنا وأصدقائنا في هونغ كونغ. وكنا في شبه انعزال تماماً".
وترك تشاو وشقيقه المدرسة الثانوية للانضمام إلى الجيش، ثم عاد إلى شنغهاي ليجتمع مع والدته مجدداً بعد الحرب.
وعندما ذهب تشاو إلى المرفأ، كان أول ما لاحظه هو رائحة الطعام، وقال تشاو: "كنت أتضور جوعاً منذ الحرب، ومنذ عام 1937 عندما جاء اليابانيون. وكان الطعام كل ما حلمنا به.. ولذلك، أخبرت والدتي: "هذا يكفي. أنا لن أذهب للجامعة، وسأصبح صياداً".
وهكذا، تعرف تشاو على رينو تشين، وبيني هسو.
وسرعان ما توافق ثلاثتهم، ثم التقوا بزملائهم الصيادين ماركو تشونغ، وهو لو تشي، أو "هولو".
وفي عام 1949 ، تقطعت السبل بالصيادين الخمسة في تايوان عندما أعلن الشيوعيون نصرهم، وسيطروا على البر الرئيسي، ما تركهم معزولين عن عائلاتهم.
وفي عام 1954، صادف تشاو قصة في جريدة عن سباق دولي لليخوت، ودفعه ذلك لسؤال رفاقه: "هل تعتقدون أنهم سيقبلون انضمام قارب خردة صيني؟".
وقرر تشاو مراسلة الجريدة.
وبشكل متوقع، تلقى الصيني برقية من اتحاد سباقات اليخوت في أمريكا الشمالية تفيد بأنه تم قبول "قارب الخردة" الخاص بتشاو في السباق، ومُنح رقم "320" للتسابق.
وكانت المشكلة عدم امتلاك تشاو قارب خردة.
العثور على قارب، وطاقم
ومع وجود بضعة أشهر حتّى السباق، سافر تشاو حول جزر تايوان بحثاً عن قارب.
وكانت المركبة التي عثر عليها عبارة عن آخر قارب خردة تجاري على الإطلاق وكانت بها حمولة من الأسماك المملحة من بر الصين الرئيسي.
واشترى تشاور القارب مقابل 1،670 دولارًا، ثم قام بتجنيد أصدقائه الخمسة لتشكيل الطاقم.
وسرعان ما ظهرت قصتهم في الأخبار، وبدأ الدعم يظهر.
وكان للطاقم 3 خزانات للمياه العذبة، ودجاجتين بالفعل، ثم تلقوا تبرعاً من نادي "Rotary Club of Keelung and Taipei" تكونّ من إمدادات غذائية تستمر لـ6 أشهر.
ولكن، احتاج الطاقم إلى تأمين تأشيرات الدخول للولايات المتحدة.
وعند وصولهم للقنصلية، قابل الفريق رجلاً ودوداً، وهو نائب القنصل، كالفين ميلرت.
وبعد أيام قليلة، ظهر الأمريكي بشكل غير متوقع وطلب رؤية منطقة النوم على القارب، وقال: "لديكم 6 أسرّة، و5 أشخاص فقط. ماذا لو سمحتم لي بالانضمام إلى الطاقم؟".
ووعدهم الأمريكي بأنهم سيحصلون على تأشيراتهم.
وبهذه الطريقة، أصبح ميلرت آخر عضو في الطاقم، ومصور الرحلة.
شهرين قبل السباق
وقبل 68 يوماً من السباق، غادر الطاقم ميناء كيلونج، وقضى أفراده 5 ساعات لمعرفة كيفية تشغيل القارب.
وفي صباح اليوم التالي، نهض الملاح تشاو للتحقق من إحداثياتهم، وتبيّن أنهم كانوا في المكان ذاته.
وظهر تحدي آخر بعد تعديلهم لمسارهم، إذ أصبحت أشرعة القارب عالقة، إضافةً للحبل أيضاً.
وبعد هزيمتهم، طلب الطاقم سحب القارب وإعادته إلى كيلونج.
وسمح عمدة المدينة، الذي بدأ يشكك في دعمه للطاقم، للأصدقاء بالانطلاق مرة ثانية.
وبعد سلسلة من التحديات، تم سحب "Free China" إلى أوكيناوا في اليابان.
وعند وصول الأخبار السيئة إلى تايوان، ورد أن هيئة مصايد الأسماك في الجزيرة أرسلت برقية إلى هيئة الميناء في أوكيناوا تطلب منهم عدم السماح للطاقم بالإبحار مرة أخرى.
ولكن، ساعدهم ميلرت من الخروج من تلك الورطة.
وبحلول الوقت الذي غادروا فيه يوكوهاما بعد الخضوع لإصلاحات متعددة، كان ذلك بتاريخ 17 يونيو/حزيران، وفاتهم بالفعل بداية السباق الذي بدأ في 14 يونيو/حزيران.
ولتحفيز أنفسهم على الاستمرار، قرر الطاقم أنهم في سباقهم الخاص الآن.
وقال تشاو: "من يوكوهاما، استغرقنا 52 يوماً آخراً لعبور المحيط".
وبحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى سان فرانسيسكو، في 8 أغسطس/آب، كان قد مر 126 يوماً منذ مغادرتهم كيلونج لأول مرة.
ورغم مناقشة الطاقم للعديد من الخطط، والتخطيط لمواصلة رحلتهم والذهاب إلى السويد، وأوروبا، إلا أن تشاو أكّد أنه: "بمجرد وصولنا، لم يرغب أي أحد أن تطأ قدماه القارب مرة أخرى".
عودة القارب إلى تايوان مجدداً
وبغض النظر عن الخلافات، ربطت الرحلة أفراد الطاقم الستة مدى الحياة.
وبقي الأصدقاء على تواصل رغم انتقالهم إلى أجزاء مختلفة من العالم.
ولمعرفة مصير القارب، قال تشاو إنه يجب الحديث مع ديون تشين، وهي ابنة رينو، أحد أفراد الطاقم.
وبعد وفاة والدها في عام 2007، ندمت تشين على عدم استماعها إلى قصصه باحترام أكبر عندما كانت صغيرة.
وأرادت تشين معرفة المزيد من تشاو، ولكنه شجعها على رؤية القارب أولاً.
وعند رؤيتها للقارب وهو ينتظر مصيره، أي الهدم، في حوض للسفن في جزيرة بيثيل، وقعت تشين في حبه، وتعهدت بإنقاذه.
ونجحت تشين بذلك بعد خطة شاقة استمرت لـ4 أعوام ونصف.
وبعد نصف قرن من رحلتها، شقت "Free China" طريقها عبر المحيط الهادئ مرة أخرى في 2012، ولكن بمساعدة شاحنات القطر، وسفن الشحن هذه المرة.
ويخضع القارب الآن لعمليات الحفظ في جامعة تايوان الوطنية للمحيطات في كيلونج، وهو أقدم قارب خردة صيني معروف في العالم.
وتأمل تشين أن تشجع قصتها الآخرين على استكشاف تراثهم قبل فوات الأوان.