دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- قد تخال بعد تجوالك في أحياء وشوارع مدينة آسكولي بيتشينو أنّها شبيهة بأي مدينة إيطالية أخرى. وفي المقاهي المحيطة بساحتيها الكبيرتين، يجلس أهلها نهارًا يراقبون المارة، وفي الليل يتنزهون في ممرّاتها الضيقة. وشُيّدت كنائس هذه المدينة التاريخية على بقايا آثار قديمة تعود إلى العصر الروماني.
وإسوة بالعديد من المدن الإيطالية الأخرى، بُنِي وسط هذه المدينة خلال العصور الوسطى، وما برح قائمًا على نحو رائع رغم مرور الزمن.
لكن أن تهيم في أنحاء هذه المدينة، لا سيّما ليلًا، ستلاحظ اختلافًا رئيسيًا مع المدن الأخرى.. فآسكولي بيتشينو تتوهّج تحت ضوء القمر.
وتلمع حجارة مبانيها وحتى أرصفتها نهارًا، تحت أشعة الشمس.. وفي الليل، تتلألأ تحت ضوء القمر، عاكسة الأبراج، والأروقة، وأضواء الشوارع بشكل دقيق على الأرضية، حتى تخال أنّ وسط المدينة أشبه بسراب.
أمّا مردّ ذلك فيعود إلى أنّ صخرة آسكولي المحليّة، التي استُخدمت في بناء المركز التاريخي كلّه، هي من نوع حجر ترافرتين الكريم، الموازي للرخام، الذي تزيد أشعة شمس الظهيرة من لونه الأبيض، ليصير ورديًا عند الغروب، ويشعّ تحت إنارة الشوارع خلال فترة المساء.
وهذا النوع من الحجر، الإيطالي تحديدًا، باهظ الثمن. وبات استخدامه يقتصر اليوم على الحمامات والأرضيات، عوضًا عن بناء مجمل المنزل به.
لكن استخدم في تشييد مباني آسكولي وأحجار أرصفتها حجر ترافرتين، قبل وقت طويل من تصنيفه كمادة ثمينة للغاية. ويعود تاريخ العديد من هذه المباني الضخمة التي نراها اليوم إلى العصر الروماني.
روما الصغيرة القديمة
وخضعت المباني الرومانية إلى إعادة تدوير، ولذا سترى كنائس قائمة على بقايا، تُوازِن بين أطلال المعابد الرومانية الواضحة للعيان، وأجزاء من الأقواس، والمباني المتداخلة مع قصور تعود إلى القرون الوسطى، وعصر النهضة.
وأوضحت ليلّا بالومبي، المرشدة السياحيّة في آسكولي، إنّ الرومان ليسوا أوّل من استقرّوا في هذه المدينة، التي كانت تخضع لنفوذ قبيلة بيتشيني أساسًا والتي امتدت أراضيها المترامية لتشمل جزءًا كبيرًا من مقاطعة ماركيه المعاصرة، بدءًا من بيزارو شمالًا إلى كييتي، في مقاطعة أبروتزو المعاصرة. وبنى أبناء هذه القبيلة المدينة قبل قرن من إبصار مدينة روما النور.
وكان البيتشينيّون محاربين أشدّاء، بحسب بالومبي، غير أنّ الرومان الذين تعاظمت قوتهم بسرعة، سعوا للتحالف معهم. وطلب البتشينيون الحصول على الجنسية الرومانية في المقابل، الأمر الذي أشعل فتيل حرب استمرت لمدة عام، أدت في نهايتها إلى سيطرة الرومان على مدينة آسكولي التي دمّروها ما أن دخلوها، وأعادوا عملية بنائها من الصفر.
وأوضحت بالومبي: "حينها، وُلدت مدينة آسكولي المبنية بحجر ترافرتين".
وكان الرومان استخدموا الحجر الجيري لبناء أبرز مبانيهم ومعالمهم الأثرية في روما، الذي استخرجوه من مقالع الحجارة الموجودة في مدينة تيفولي القريبة منها، حتى أنهم أطلقوا على الحجر اسم "اللازورد تيبورتينوس"، أو "حجر تيفولي"، الذي أصبح يُلفظ مع الوقت "ترافرتينو".
وبعد غزو الرومان لآسكولي، لاحظوا وجود مقالع حجارة مماثلة تبعد أميالًا قليلة، قبالة درب فيا سالاريا القديمة. فاستخدموا هذا الحجر لبناء مدينة جديدة متلألئة، ولإبراز قوتهم حتى على الأعداء الذين دحروهم.
ولفتت بالومبي إلى أنّ هذه المدينة كانت تُعرف بـ"روما الصغيرة". وأشارت إلى أنّها كانت تضم "معابد، ومحكمة، ومرافق للاستجمام، ومبنى كابيتول. وما زالت بياتزا سان تومّاسو تحافظ على استدارتها الطفيفة إلى اليوم، لأنها تقوم على المدرج القديم. ويتواجد خارج وسط المدينة بقايا المسرح الروماني، أحد المباني القديمة القليلة التي نجت من "إعادة تدوير" المدينة خلال العصور الوسطى.
ألفا سنة من إعادة التدوير
وصمدت مدينة "آسكولي" الرومانية أيام الإمبراطورية، لكن خلال العصور الوسطى، قرّر المواطنون إعادة بنائها. وبدلاً من استخدام الأحجار الجديدة، قاموا بإعادة تدوير المباني الرومانية، مستخدمين حجر ترافرتين الذي قُصّ قبل ألف عام، لبناء مدينة معاصرة. لذا تقوم اليوم كنيستا سان فينانزيو، وسان غريغوريو مانيو، في موقع المعابد الرومانية، واستخدمت حجارتها في تشييد المبنى، حتى أنّ الكنيسة الأخيرة أعادت تدوير الأساسات الوثنيّة وجدارها الخلفي، وبنت واجهتها حول عمودين كورنثيين أصليَّين.
وقالت بالومبي التي تملك حانة أوزيو، داخل مبنًى يعود إلى العصور الوسطى، استخدم الحجر الروماني في تشييده، وكان قد خضع للتجديد خلال عصر النهضة، إنّه "يتم إعادة تدوير كل شيء، لقد فكّكنا الآثار الرومانية لبناء مدينة العصور الوسطى".
وأوضحت "كانوا يحاولون توفير الوقت والطاقة، لذلك بدلاً من الذهاب إلى الجبال لاستخراج حجر ترافرتين، أخذوا ما كان موجودًا بالفعل، لتصبح المدينة عبارة عن مقلع حجارة"، مضيفة: "أنظر عن كثب إلى الأبراج العديدة التي جعلت من هذه المدينة مانهاتن العصور الوسطى، كما أُطلق عليها أحيانًا مدينة الـ100 برج، وستقع أيضًا على العديد من اللوحات الرومانية المنحوتة".
وخضعت مدينة آسكولي لمزيد من إعادة التصميم خلال عصر النهضة، حيث استخدم حجر ترافرتين حصريًا، ما جعل مدينة آسكولي بيتشينو تتمتع بتراث معماري لم يتغيّر أبدًا.
وقال ستيفانو بابيتي، مدير المتاحف الخمسة في المدينة بصفته مستشار آسكولي العلمي لأعمال المدينة البارزة: "آسكولي هي المدينة الوحيدة في العالم المبنية من حجر ترافرتين بالكامل"، موضحًا أنها "تختلف عن المدن الفنية الأخرى في إيطاليا، فهي مبنية بشكل أساسي من حجر الطوب الذي تمّ تلبيسه بحجر ترافرتين أو الرخام. لكن جميع المباني في هذه المدينة، سواء كانت تعود للفترة الرومانية، أو العصور الوسطى، أو عصر النهضة، أو لأي حقبة لاحقة، مبنية بكتل صلبة من حجر ترافرتين، المستخرج من الجبال المحيطة بآسكولي".
حجر ترافرتين أنقذ آسكولي من الزلازل المدمرة
ويضيف حجر ترافرتين رونقًا كبيرًا على مدينة آسكولي، فهو يكون ناعمًا نسبيًا عند استخراجه للمرة الأولى، ما يسمح بالنحت عليه، وهذا أحد الأسباب الذي ميّز بوابات وواجهات مباني هذه المدينة المنحوتة والمزخرفة. حتى أنّ العديد من منازل عصر النهضة لديها شعارات منحوتة على مداخلها.
وبعد خضوع هذا الحجر لعملية أكسدة كيميائية، يتصلّب ويتحوّل إلى صخر شديد المقاومة، ما سمح لمباني آسكولي أن تصمد في وجه الزلازل المتعددة التي ضربت المنطقة على مرّ القرون.
وهي لم تُدمّر جراء زلزال قوي ضرب المنطقة عام 1703، ولم تتعرض لأضرار قوية بسبب زلزال عام 2016، الذي دمر مدينة أماتريس، التي تبعد ساعة عنها.
وتُعتبر المنطقة التي تتواجد فيها آسكولي أكثر استقرارًا من المناطق المجاورة الأخرى. لكن، بحسب بابيتي "يساعد الحجر في جعل المباني أكثر استقرارًا".
وتوافقه بالومبي الرأي مشيرة إلى أنّ "الرومان كانوا على دراية بأنّ هذه المنطقة تقع على خط الزلازل، فبنوا آسكولي لمقاومتها. وكان لديهم مجموعة من المهندسين أفضل من اليوم".