دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- دفع إغلاق المجال الجوي الروسي أمام بعض شركات النقل الجوية الدولية، العديد منها في أوروبا، للبحث عن مسارات بديلة. وهذا الواقع المستجد شكل عائقًا لبعض الرحلات الجوية، كتلك التي تربط أوروبا وجنوب شرق آسيا، ذلك أن أكبر دولة في العالم، روسيا، تقع بينهما مباشرة.
وربما أكثر ما يجسد هذه المشكلة رحلة "Finnair" من هلسنكي إلى طوكيو. وقبل غزو أوكرانيا، كانت طائرات النقل الجوي الفنلندي تقلع وتنحرف بسرعة إلى المجال الجوي لروسيا المجاورة، وتعبر فيه أكثر من 3 آلاف ميل، ثم تدخل إلى الصين من جهة حدودها الشمالية مع منغوليا، حيث تحلق في مجالها الجوي لحوالي ألف ميل، قبل أن تدخل مجدّدًا روسيا من جهة شمال فلاديفوستوك.
وأخيرًا، تعبر بحر اليابان جنوبًا نحو مطار ناريتا. وتستغرق هذه الرحلة أقل من تسع ساعات كمعدل وسطي وتغطي مسافة 5 آلاف ميل.
وغادرت آخر رحلة من هذا النوع في 26 فبراير/شباط. وفي اليوم التالي، منعت روسيا فنلندا من استخدام مجالها الجوي، ما أجبرها على إلغاء معظم رحلات "Finnair" الآسيوية مؤقتًا، ضمنًا كوريا الجنوبية، وسنغافورة، وتايلاند.
وبسبب ذلك، كان واضعو مسارات الخطوط الجوية يعملون منذ فترة طويلة على إيجاد حل. وقال ريكو كوهفاكا، مدير تخطيط الرحلات لدى "Finnair": "قمنا بأول مسار تقريبي قبل إغلاق المجال الجوي الروسي بنحو أسبوعين".
وتبيّن لنا أنّ الحل يكمن بالتحليق فوق القطب الشمالي. فعِوض التوجه جنوب شرق روسيا، تغادر الطائرات الآن هلسنكي وتتجه شمالًا مباشرة باتجاه أرخبيل سفالبارد النرويجي، قبل عبور القطب وألاسكا.
ومن ثم تتجه الطائرة نحو اليابان وتحلّق فوق المحيط الهادئ، وتلتف حول المجال الجوي الروسي. وهذه ليست رحلة مباشرة كما في السابق، وتستغرق أكثر من 13 ساعة الآن، وتقطع مسافة 8 آلاف ميل، وتستهلك وقودًا أكثر بنسبة 40٪.
السلامة أولا
وبدأت "Finnair" بالطيران إلى اليابان مستخدمة المسار القطبي في 9 مارس/ آذار. وعليه، كيف يمكن لشركة طيران إعادة تصميم واحدة من أطول رحلاتها بما يزيد قليلاً عن أسبوع؟
وأوضح كوهفاكا أنّ "جميع شركات الطيران الكبرى لديها نظام تخطيط محوسب لرحلاتها، الذي تستخدمه لوضع المسارات وتغييرها". وفي برنامج الكمبيوتر، يمكن شطب المجال الجوي لبلدان معينة ووضع نقاط الطريق يدويًا للمساعدة في حساب الطرق البديلة.
وتمثل الخطوة التالية خطة طيران تشغيلية جديدة، وإطلاع الطاقم على المسار، وكمية الوقود التي يحتاجون إليها، وكم يمكن أن تزن الطائرة، وسواها من المعلومات.
وقال كوهفاكا: "علمنا من خلال التجربة أن لدينا احتمالين: أحدهما شمالًا والآخر جنوبًا".
وإلى الطريق القطبي، يمكن لشركة "Finnair" الوصول إلى اليابان أيضًا عن طريق الطيران جنوب روسيا، محلّقة فوق دول البلطيق، وبولندا، وجمهورية سلوفاكيا، والمجر، ورومانيا، وبلغاريا، وتركيا، مرورًا بجورجيا، وأذربيجان، وتركمانستان، وأوزبكستان، وكازاخستان، والصين، وكوريا وصولًا إلى اليابان. ورغم أنها أطول، إلا أنه إذا كانت ظروف الرياح مؤاتية، فيمكن الاستفادة منها، لا سيما أنها تستغرق وقت طيران مماثل.
وبعد ذلك، تُستخدم بيانات استهلاك الوقود، ورسوم الملاحة، لتقدير كلفة الرحلة.
وأوضح كوهفاكا أنه "بعد ذلك، نحتاج إلى التحقق من نوع التضاريس التي نحلّق فوقها. على سبيل المثال، لمعرفة إذا كان الارتفاع في أي نقطة من المسار يتطلب تخطيطًا خاصًا، في حال فُقد المحرك أو ضغط الهواء، وهو أمر يؤخذ دومًا في الاعتبار عند التحضير للرحلة".
وما أن يحصل المسار الجديد على الموافقة، ينتقل التركيز إلى معدات الطائرات، والعمليات، واللوائح المرتبطة بها.
طريق الحرب الباردة
وتتعامل شركات الطيران بشكل روتيني مع إغلاق المجال الجوي، على سبيل المثال أثناء إطلاق المركبات الفضائية أو التدريبات العسكرية، وقد أدت النزاعات السابقة إلى تقليل عدد الرحلات الجوية أو حدّها فوق أفغانستان، وسوريا، وباكستان. لكن إغلاقًا بهذا الحجم لم يحدث منذ زمن الحرب الباردة.
ونظرًا لأن عملية التفاوض على حقوق التحليق تتم بين الدول عوضًا عن شركات الطيران الفردية، وقعت روسيا وفنلندا على اتفاقية عام 1994، بعد مرور عامين على سقوط الاتحاد السوفييتي.
وسابقًا، لم تكن "Finnair"، إسوة بمعظم شركات الطيران الأوروبية الأخرى، تحلّق فوق الاتحاد السوفييتي. وعندما بدأت عملياتها إلى طوكيو عام 1983، كانت تحلق فوق القطب الشمالي وألاسكا.
ولفت كوهفاكا إلى "أنّ هذا الطريق ليس بجديد بالنسبة إلينا"، موضحًا أنّ "Finnair" كانت أول شركة طيران تحلّق على هذا المسار من دون توقف، مستخدمة طائرات "DC-10"، بينما أن غالبية الشركات الأخرى في ذلك الوقت، كانت تتوقف للتزود بالوقود في أنكوريج.
ويزيد المسار الجديد من استهلاك الوقود بمقدار 20 طنًا، ما يزيد التحديات البيئية والمالية. لهذا السبب، تعطي "Finnair" الأولوية للبضائع، حيث يكون الطلب أقوى، وتحد من سعة الركاب إلى 50 مقعدًا فقط، علمًا أن طائرات "إيرباص" من طراز "A350-900" المستخدمة في الرحلات يمكن أن تستوعب ما يصل إلى 330 شخصًا.
وقال جوناس موربي، محلل الطيران في شركة "Aerodynamic Advisory" إن طول الرحلة الإضافية سيجعل عددًا أقل من الرحلات مجدية اقتصاديًا. وتابع: "لقد باتوا يعتمدون بشكل كبير على مزيج من الركاب المتميزين والبضائع عالية الإنتاجية، وذلك في بيئة حيث لا يزال الطلب الإجمالي للسفر على طول هذه الطرق منخفضًا نسبيًا. أشك في أن تعتمد هذه الاستراتيجية على نطاق واسع".
الأضواء الشمالية
وللتحليق لأربع ساعات إضافية أثر على الركاب، وأفراد الطاقم، ما يزيد التكاليف.
وأوضح أليكسي كوزمانين، نائب رئيس طيار أسطول "Finnair"، والقبطان في الرحلات الجديدة: "بالعادة نسافر إلى اليابان بطاقم يتألف من ثلاثة طيارين"، متابعًا: "نقطع هذه المسافة بأربعة طيارين الآن. ولدينا مقصورة لطاقم الطيران خاصة تتألف من طبقتين حيث يمكننا النوم والاستراحة، كما زدنا عدد الوجبات".
وذكر كوزمانين، أن رد فعل الركاب كان إيجابيًا على المسار الجديد، لافتًا إلى أنهم كانوا يشعرون بالحماس ويسألون "في أي وقت سنعبر القطب، وما إذا كانوا سيرون الأضواء الشمالية".
كما تُقدم "Finnair" أيضًا ملصقات و"شهادات" للركاب تفيد بأنهم حلّقوا فوق القطب الشمالي.
وبشكل عام، من وجهة نظر الطيار، فإن المسار القطبي يجعل الأمور أكثر إثارة للاهتمام، لكنه لا يغير الوظيفة بشكل أساسي.
وقال كوزمانين: "ربما تكون المنطقة القطبية هي المكان الأمثل لكل طيار يعشق التحليق لمسافات طويلة".