دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تخال للوهلة الأولى أنّ إزمير تشبه إلى حد كبير أي مدينة تركية عصرية أخرى، مكتظة بالسكان مع هندسة معمارية بسيطة.
ورغم أنها كانت ذات يوم أكثر المدن العالمية في تركيا، إلا أنه لا يزال يمكن العثور على هذا الطابع التاريخي كامنًا في شوارع إزمير.
وإن عدت بالزمن إلى الوراء، لأكثر من قرن، ستجد أن العائلات الثرية من بلاد المشرق العربي، واليونان، وتركيا، وأرمينيا، كانت تتجول على طول الواجهة البحرية لإزمير مرتدية أحدث صيحات الموضة في العاصمة الفرنسية باريس.
وكان هؤلاء يحتسون مشروبات الكوكتيل في الحانات الأنيقة، ويرسلون أطفالهم إلى المدارس الكاثوليكية حتى يتلقوا تعليمهم باللغتين الفرنسية واللاتينية.
أما سكان إزمير فكانوا مثالاً للرقي والجمال، لكنّ نمط حياتهم هذا وصل إلى خواتيمه بشكل مفاجئ عام 1922، عندما اندلعت حرائق هائلة في شوارع المدينة.
مدينة الاحلام
وتلف المدينة الحديثة خليج إزمير، لكنّ نبض الحياة فيها بدأ في سميرنا القديمة، الواقعة في حي بايراكلي. وكانت قرية في السابق، لكنها استحالت اليوم موقعًا أثريًأ.
وتقول الأسطورة إنّ الإسكندر الكبير كان يومًا يصطاد على منحدرات جبل باغوس القريب، وتوقف لأخذ قيلولة. وتراءى له في المنام عدوين طلبا منه بناء مدينة حيث يرقد.
وعلى جري العادة، تشاور الإسكندر مع الكاهن أبولو الذي أخبره، متقنًا دور سمسار عقارات أن "السميرنيانيين الذين يعيشون على سفوح جبل باعوس بالقرب من تيار ميليس المقدس ستزداد سعادتهم أربع مرات عن ذي قبل".
وعليه، تم إنشاء وسط مدينة جديد على قمة الجبل في القرن الرابع قبل الميلاد، كما يُروى. ومهما كانت الحقيقة الكامنة في هذه القصة، كان للإسكندر الكبير في إزمير الأثر الكبير فيها.
وتم بناء أغورا سميرنا بناءً على أوامره. وعند الانتهاء منه بلغ ارتفاعه أربع طبقات، لكن الطبقة السفلية فقط ما زالت موجودة. ويمكن للزوار راهنًا مشاهدة صفوف من الأقواس الحجرية الأنيقة التي تلقي بظلالها على الأرض بآليات نظام مياه معقد.
وأساسات البازيليكا، وهي نوع من القاعات العامة، تحتوي على كوات مزينة بالكتابات على الجدران، بالإضافة إلى صور منقوشة ومطلية تصور الحياة اليومية الرومانية. ويفضي التسلق القليل إلى أرض مفتوحة أعلاه حيث تتمتع بمنظر رائع للحقول العشبية التي كانت مرتعًا للحركة والتجارة.
العصر الذهبي
وكانت إزمير إحدى المحطات على طول طريق الحرير، لكنها برزت فعلًا في القرن السابع عشر. وجعلت الحروب المختلفة من مرفأ سميرنا، الميناء الأكثر أمانًا لنقل الحرير من إيران، وجذب التجار من جميع أنحاء العالم.
وكانت عشيرة أوناسيس تتاجر بالتبغ، بينما حقق اليونانيون الذين ولدوا في تركيا ثرواتهم من بيع التين اللزج الشهير في سميرنا. وباع متجران تملكهما اليونان كل شيء يمكن تخيله، وكان للمصارف الدولية فروعًا في المدينة.
وكانت عائلات المشرق العربي مثل ويتهولز وجيرودس تمتلك مصانع ومناجم، وكان الأرمن محط إعجاب لتفانيهم بالعمل وأخلاقياتهم المهنية. وأنشأ الأمريكيون مستعمرة منفصلة، في الداخل، أطلق عليها اسم الجنة، فيما عاش اليهود والأتراك في أحياء مجاورة على ضفة المياه.
وفي أي وقت، كان يمكن سماع عشرات اللغات في الشوارع، ضمنًا الإنجليزية، والألمانية، وحتى الهندية.
ويقول بولنت سينوكاك، مؤلف ومؤرخ من إزمير: "مع تاريخها البالغ 8500 عام، تُعتبر إزمير واحدة من أقدم المستوطنات في بلاد الشام وتركيا، وقد استضافت حضارات مختلفة عبر التاريخ".
وتابع: "من الضروري رؤية المباني التاريخية وسط المدينة، التي تحمل آثار هذا التاريخ متعدد الثقافات، بالإضافة إلى سوق كيميرالتي التاريخي، الذي أنشئ قبل العديد من المدن في أوروبا".
نهاية حقبة
وبينما كانت الحياة بالنسبة للسكان الأكثر ثراءً، بداية القرن العشرين في إزمير، عبارة عن سلسلة من النزهات الفخمة، وحفلات ركوب القوارب، ومآدب العشاء الفاخرة، تغيّر هذا الواقع في سبتمبر/ أيلول 1922، عندما وصلت حرب الاستقلال التركية إلى أعتاب منازلهم.
وسرعان ما استبدلت الدخول المنظم للجيش التركي إلى المدينة بالفوضى. فقد تدفق الجنود اليونانيون واتجهوا إلى الواجهة البحرية حيث انتظرت السفن البحرية لنقلهم إلى منازلهم.
واليونانيون الذين وُلدوا في تركيا من جميع أنحاء الأناضول، خوفًا من العقاب، لحقوا بهم على الفور. وخلال أيام، علق آلاف الأشخاص على الرصيف بحثًا عن مخرج. واندلعت سلسلة من الحرائق التي استمرّت أيام عدّة.
وعندما أُطفئت آخر ألسنة اللهب، لم يتبقّ سوى القليل من الوجهة النابضة بالحياة والمعروفة باسم سميرنا. وفي وقت لاحق هُدمت المباني التي نجت من الحريق، بعدما تركت فارغة، وسقطت في حالة سيئة بسبب التبادل السكاني، عام 1923.
وشهدت هذه الاتفاقية انتقال الرعايا اليونانيين الأتراك إلى تركيا. وانتقلت العديد من عائلات المشرق العربي التي تحمل جوازات سفر أوروبية ومنازل ثانية إلى مكان آخر. وقلة هم من عادوا، ما أدى إلى تغيير جذري في طابع المدينة.
لكن تتمتع إزمير بالمرونة، ومثل طائر الفينيق، فإنها آخذة في الازدهار.
ورصيف سميرنا، حيث غادرت القوارب محملة بالسلع الغريبة لبيعها في أوروبا، أعيد اختراعه وأطلق عليه ممشى كوردون.
أساطير محلية
وتقول الأسطورة الشعبية أن كوناك بيير في إزمير صمّمه المعماري غوستاف إيفل الذائع الصيت، عام 1890. ويرجح أنه كان عمل لشخص ما في شركته، لكن الهيكل الفولاذي يذكرنا بدرجة كبيرة بأسلوبه. وما بدأ كمنزل جمارك أصبح الآن مركزًا للتسوق يحوي مطعمًا أنيقًا يطل على المياه.
ويحتل برج ساعة عبد الحميد الثاني المزخرف للغاية مركز الصدارة في ساحة كوناك. وبُني عام 1901 لسلطان عثماني، صممه المهندس المعماري الفرنسي ريموند تشارلز بيري.
ورغم تباين خلفياتهم، فإن الهيكل البالغ ارتفاعه 82 قدمًا لا يبدو تركيًا أو فرنسيًا. وتأثر بيريه بالمباني في شمال أفريقيا والأندلس، لذا فإن كل مستوى من مستوياته الأربعة عبارة عن سلسلة من الأعمدة وتيجان مزخرفة وأقواس على شكل حدوة حصان.
وعلى بعد ميل واحد جنوباً، أطلق اسم إحدى أبناء إزمير على شارع. فقد ولد لعائلة يهودية كبيرة عام 1921، وتخلى ديفيد أروغيتي عن هدفه بأن يصبح كاتبًا قانونيًا بعد تعلم الغيتار والبدء في الغناء.
وأطلق على نفسه اسم داريو مورينو، وقام بقطع أسنانه في الاحتفالات اليهودية قبل أن يكسب شهرة على مستوى البلاد. واشتهر بتسجيله عام 1962 لأغنية "يا مصطفى" من تأليف الملحن المصري محمد فوزي.
وقد حظي بشعبية كبيرة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث أصدر نسخًا منها باللغات العربية، والفرنسية، والإسبانية، والعديد من اللغات الأخرى.
وفي نهاية المطاف، اشترى مورينو منزلاً في الحي اليهودي الأكثر رقيًا بالمدينة، في شارع اسمه أسانسور سوكاك (Asansör Sokak)، الذي استوحى اسمه من المصعد التركي.
ويضم الشارع مصعدًا حقيقيًا، بناه تاجر يهودي عام 1907، يربطه بجزء علوي من الحي.
وخلال الحرب العالمية الأولى، كان المبنى يضم كازينو، ومعرض صور، وسينما. ويوجد اليوم مقهى وبار ومطعم. يمكن للزوار الصعود إلى أعلاه والاستمتاع بالمنظر، قبل أو بعد التحقق من المنازل التقليدية التي تم تحويلها إلى حانات ومقاهي ملونة بألوان زاهية في داريو مورينو سوكاجي، كما يطلق على شارع المصعد الآن.