دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- يبدو أن الليكيين القدماء كانوا يعرفون الكثير عن الديمقراطية. فقبل ألفي عام، كان لدى الحكام السابقين للجزء الجنوبي الغربي من تركيا الحديثة اتحاد ديمقراطي يعمل بكامل طاقته، حد أنه ألهم البنية السياسية لأمريكا بعد قرون من ذلك.
وفي حين قد تواجه الديمقراطيات في كل مكان أوقاتًا مضطربة، إلا أنّ إرثًا ليكيًّا آخر ما برح حاضرًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط التي اعتادوا إطلاق اسم الوطن عليها. ويتمحور هذا الإرث بالمجمل نوعًا ما حول الموت.
وإذا جلت في ساحل هذه المنطقة الجميلة بالسيارة، فلن تكون بعيدًا أبدًا عن مدينة الموتى المذهلة، وهي عبارة عن مقابر متقنة، نَحَتها الليكيون في جوانب المنحدرات المطلّة على المدن والوديان والشواطئ.
وهذا ليس كل شيء. تنتشر في جميع أنحاء الريف والبلدات توابيت مهيبة يُحتمل أنها كانت تحتوي ذات يوم على رفات علية سكان ليكيا الأقوياء. وفي الواقع، يبدو مشهد هذه التوابيت مألوفًا جدًا لدرجة أنها غالبًا ما تُذكر على نحو عرضي كجزء من المناظر الطبيعية الحضرية.
وبالنسبة للزوار، خصوصًا المهتمين بالتاريخ، فإنّ تعقّبهم يُعد مغامرة في حد ذاتها.
وفي حين تُحفظ بعضها في مواقع أثرية يمكن دخولها بتذاكر خاصة، فإن البعض الآخر يمكن استكشافه مجانا، وقد يتطلب مهارات استكشاف ترقى لمستوى شخصية إنديانا جونز، وتسلق التلال الشاهقة، وركوب القوارب، والتنقيب في الغابة للعثور عليها.
وتعتبر فتحية نقطة انطلاق جيدة، وهي مدينة ساحلية متواضعة، تعتبر نقطة انطلاق مفيدة لزيارة الشواطئ الرائعة والمعالم السياحية الممتدة على طول ريفييرا ساحل الفيروز في تركيا. وبعد يوم من السباحة في تلك المياه الرائعة، يستحق الأمر القيام برحلة غروب الشمس إلى المنحدرات المطلة.
هنا، في أعلى المدينة المعروفة باسم "تيلميسوس" من العصر الليكي، وبإطلالة رائعة على اللحظات الذهبية الأخيرة لغروب الشمس في بحر إيجه، توجد مقابر "أمينثاس" الصخرية، وهي عبارة عن أقراص عسل من البوابات المنحوتة التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد.
وبعد دفع رسوم الدخول البالغة ثلاثة يورو (أكثر من 3 دولارات)، يمكنك صعود الدرجات إلى المقبرة الرئيسية التي تواجهها أعمدة على الطراز اليوناني.
غير أن المقبرة فارغة، إذ أنها نُهبت منذ قرون، لكن المنظر والفرصة للاقتراب من مثل هذا النصب التذكاري القديم يعد كنزًا بحد ذاته.
ويعد الموقع شهيرا لالتقاط صور السيلفي، حيث يجلس بعض المصورين المحترفين حتى وقت الإغلاق للحصول على لقطة فريدة لأنفسهم من دون أي سائح آخر في الصورة. لكن نظرًا لكونه بعيدًا قليلاً عن المسار المطروق، فإنه لا يكتظ بالزوار.
وبصرف النظر عن قلة المعلومات المحيطة بشاغل القبر، أمينثاس، الذي كان "ابن هيرمابياس"، أو حول طقوس الموت التي يؤديها الليكيون. لكن هل تدل أماكن الراحة المرتفعة هذه على كونها أقرب إلى السماء أو أبعد عن العالم السفلي؟
تزعم الأسطورة المحلية، وفقًا لأوندر أوجوز، وهو مرشد مقيم في المنطقة، أن الليكيين وضعوا موتاهم في شقوق الجرف أو مقابر الشاطئ حتى يتمكن مخلوق مجنّح يشبه "السيرانة" (حوراء بحرية لها رأس امرأة وجسد طير) من حملهم إلى الحياة الآخرة.
ومع ذلك، لا يوجد دليل أثري يدعم هذا المزعم.
وتقول كاثرين درايكوت، أستاذة مساعدة بعلم الآثار في جامعة دورهام بالمملكة المتحدة، إن هذا الأمر يمثل لغزًا.
ومن المعروف أن الليكيين عاشوا في المنطقة لقرون، وطوّروا نصب الموت التذكارية منذ القرن الخامس قبل الميلاد حتى الحقبة التي كانت خاضعة فيها لسيطرة أو تأثير الإغريق والرومان والفرس. ويبدو أن المقابر هي بين التذكارات المادية القليلة الباقية للوجود الليكي.
وتشير درايكوت إلى أن البعض يتكهن بأن الليكيين كانوا مهووسين بالموت، لكن الكثير من فهمنا لمعتقداتهم ليس سوى محض تكهنات.
وتقول: "يمكننا أن نخمّن أنه قد يكون هناك نوع من الاختلاف في الوضع الاقتصادي بين الأشخاص الذين صنعوا تلك المقابر، لكن هذا غير معروف".
خلق الأسطورة
يمكن رؤية المزيد من المقابر المنحوتة في الصخر شمال غرب فتحية، بالقرب من مدينة داليان، والعديد من المواقع الأخرى في الجنوب والشرق، لا سيما في مدينة ميرا القديمة، بالقرب مما يُعرف الآن بمدينة ديمري التركية.
هنا، تقف مقبرة على جانب الجرف فوق ما أصبح فيما بعد مدينة رومانية مزدهرة بها مسرح، ولا تزال أنقاضه باقية حتى اليوم. ويمكن دخول المقابر على مستوى الأرض، لكن المقابر الأعلى التي تحمل بعضها نقوشًا متقنة، بعيدة المنال.
وتشترك هذه المقابر على الجرف مع مقابر الأعمدة التي عثر عليها في موقع "زانثوس" الليكي الداخلي، هو ارتفاع البقايا البشرية نحو السماء. مع ذلك، لا يمكن إلا التكهّن بمدى أهمية ذلك، وفقا لدرايكوت.
وتقول: "لا نستطيع أن نقول ما إذا كان هناك رابط بين المعتقدات الليسية وآلهة السماء"، مشيرة إلى أن تقاليد الموت القديمة الناشئة من منطقة بلاد الشام المتوسطية كانت تميل أكثر نحو ما يسمى بالأرواح الكاثونية التي يُعتقد أنها تسكن تحت الأرض.
وتضيف: "من المؤكد أنّ المقابر تشير إلى وجود رغبة بعدم الدفن تحت الأرض ورغبة بالدفن في أماكن مرتفعة، لكن ليس واضحًا ما إذا كان الأشخاص المدفونون في أماكن مرتفعة يتمتعون بميزة على الآخرين، رغم أنه يمكن القول إن المكانة كانت لتكون أعظم من حيث المنافسة على المقابر، لأنهم كانوا مضطرين بطريقة ما إلى إحضار بنائين إلى هناك".
وتفترض أن المقابر مثل تلك الموجودة على الأعمدة ربما كانت ببساطة تمارين لبناء المجتمع، ربما باستخدام عبادة الأسلاف لخلق الأساطير والولاء النسبي لتعزيز مجتمع أكثر تماسكًا في أوقات الاضطرابات.
وفي حين صُمّمت العديد من مواقع الدفن الليسية الرئيسية كي تكون أجزاء مرئية للغاية من المناظر الطبيعية للمدينة، إلا أنّ هناك الكثير منها منتشرة في جميع أنحاء هذا الجزء من العالم لدرجة أن بعضها أصبح ببساطة جزءًا من المناظر الطبيعية.
وهذا هو السبب في أنك تجد السيارات تمر بسرور بجوار تابوت في منتصف الطريق في فتحية، أو عالقة في دوار مروري في مدينة كاش الساحلية.