هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
في العام 2005 نشر توماس فريدمان الصحفي الكبير بجريدة نيويورك تايمز كتابه بعنوان "العالم مسطح . "ذاع صيت الكتاب، واعتبره النقاد تتويجا لعملية تبشير طويلة بالعولمة اشترك في قيادتها فريدمان. تجاسر فريدمان في الكتاب وخارجه فوضع نظرية أطلق عليها نظرية "الأقواس الذهبية ."
من خلال هذه النظرية ومستندا عليها، تنبأ فريدمان بقرب حلول مستقبل يعيش العالم فيه بفضل العولمة في وضع لا يسمح بنشوب نزاعات بين الدول. فالأقواس الذهبية التي ترمز الى سلسلة مطاعم ماكدونالدز انتشرت في كل القارات، تزدان بها عشرات بل مئات المدن في الهند والصين وروسيا وأوروبا وأفريقيا. هذه السلسلة التي تقدم الوجبات السريعة واستطاعت خلال سنوات أن تحتل مكانة الصدارة في سجلات الثقافة الشعبية الأمريكية، سوف تحقق، حسب رأيه، مالم تحققه الدبلوماسية والمؤتمرات الدولية والمفاوضات في سالف العصر والزمان، ستحقق السلام وتمنع التوترات التي تتسبب في نشوب النزاعات بين الدول. جرأة في الكتابة والتحليل لم تتوفر لغير توماس فريدمان وحواريين من مدرسته.
***
في شهر أغسطس 2014، أي قبل أسابيع قليلة، أغلق مفتشو الصحة التابعون للحكومة الروسية مطعم ماكدونالد الكائن في 29 شارع بولشايا برونايا. الجدير بالذكر أن هذا المطعم أفتتح يوم 31 يناير عام 1990 ، وكان بشهادة الكثيرين يوما مشهودا في تاريخ موسكو المعاصر. إذ دخل المطعم في ذلك اليوم أكثر من 30.000 زائر. ومازلت أذكر جيدا كيف راوغت وقتها حكومة روسيا لتتفادى التوقيع على عقد يكون فيه الطرف الآخر شركة ماكدونالد الأمريكية، وأصرت على أن يوقع على العقد الفرع الكندي التابع لهذه الشركة. كانت الأعصاب مازالت مشدودة. فالحرب الباردة انتهت أو بدت كما لو كانت انتهت، ومع ذلك خافت الحكومة أن يثير التعاقد مع ماكدونالد، رمز العولمة والإمبريالية الأمريكية، غضب "فلول" الشيوعيين وطلائع القوميين ورواد الكنيسة.
كثيرون، وبينهم فريدمان على ما أذكر، اعتبروا هذا التاريخ، تاريخ افتتاح أول فرع لماكدونالدز في موسكو، اليوم الذى حققت فيه مسيرة العولمة أعظم انتصاراتها وأثبتت وجودها -- جميل مطر. فالمطعم افتتح في موسكو رمز الشيوعية وعاصمة العدو اللدود السابق لأمريكا، مما يدل على قدرة ماكدونالدز الجبارة في التغلب على التوترات الدولية والانتقال بالعلاقات بين الدول من حال خصام إلى حال الوئام والسلام.
كثيرون ليسوا أقل عددا، ولا أظن فريدمان بينهم، يعتبرون عام 2014، تاريخ إغلاق هذا الفرع الشهير من سلسلة مطاعم ماكدونالد، العام الذى سقطت فيه مسيرة العولمة. فالإغلاق مع أسبابه وخلفياته وظروفه، جميعها اجتمعت لتؤكد أن العولمة لم تحقق الوئام بين الأمم والحكومات، بل لعلها متهمة الآن بأنها أضافت خلال مرحلة هيمنتها أسبابا جديدة للتوتر وخلقت مصادر لم تكن معروفة للنزاعات الدولية.
***
ما حدث في الأسابيع الأخيرة معروف، ولعل بعض جوانبه توقعها متخصصون في شئون العلاقات الدولية، وبخاصة من كان منهم غير مولع، ولع فريدمان، بنظريات الأقواس الذهبية والعولمة. بإيجاز شديد، وقع سباق بين كتلتين في أوروبا للحصول على أوكرانيا عضوا في واحدة منها. حاول الاتحاد الأوروبي مستخدما الضغوط الدبلوماسية والإغراءات وأسلوب تحريك قوى المجتمع المدني الأوكراني لتنشب في أوكرانيا مظاهرات تسقط حكومة منتخبة تميل إلى الانضمام إلى التكتل الآخر، التكتل الأوراسي الذى تقوده روسيا.
من ناحيتها استخدمت روسيا وسائل ضغط مقابلة، كان بينها التهديد بقطع أنابيب الغاز الذي يشغل مصانع أوكرانيا ويدفئ مساكنها. بينها أيضا إثارة النزعات القومية لدى سكان القطاع الشرقي من أوكرانيا، حيث تعيش أعداد كبيرة من أصول روسية أو عاشت حياتها معتمدة على السوق الروسية. وعندما كسبت بروكسل الجولة الأولى من السباق أقدمت روسيا على الاستيلاء على شبه جزيرة القرم وإثارة شعب شرق أوكرانيا وتسليح جماعات فيه للمطالبة بالانفصال عن أوكرانيا.
وفي استعادة لروح الحرب الباردة وأساليبها، أقدم الطرفان على اتخاذ إجراءات تصعيدية. فرض الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا، محطما بكل بساطة قواعد حرية التجارة، وغير عابئ بأسس مسيرة العولمة -- جميل مطر، مركزا مقاطعته على النظام المصرفي والقطاع النفطي والصناعة العسكرية. وجاء الرد من روسيا في شكل الدفع بدعم عسكري لقوى الانفصال، وفي شكل لعله جسد بوضوح المغزى الأهم، وهو إغلاق فرع ماكدونالدز رمز حرية التجارة وعصر العولمة. بمعنى آخر، العودة بروسيا إلى عهد اعتقد شعبها أنه انتهى إلى غير رجعة، وهو عهد الحرب الباردة.
***
رفض الخبير الجيواستراتيجي "إدوارد لوتواك" مقولات فريدمان، بل راح وقتها في نقده بعيدا حين تنبأ بأن العولمة ستكون هي نفسها مصدرا أساسيا للتوترات الدولية على عكس ما بشر به فريدمان. قال إدوارد إن قوى العولمة ذاتها هي التي ستعمل على إشعال نيران حروب باردة وساخنة جديدة وأنها سوف تتسبب في توترات بين الشعوب كما بين الحكومات وشعوبها. ولعله كان على حق إذ أنه منذ بدايات المرحلة التي أعقبت سقوط الشيوعية وفي وقت تخيلنا جميعا أن الوئام سيحل بين الغرب والشرق رأينا ما يلي.
أولا: هوليوود إحدى أهم قوى العولمة ورموزها ترفض القبول بواقع انتهاء الحرب الباردة، وتصر على مواصلة إنتاج أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية بمضمون شديد العداء لروسيا رغم تخليها عن الشيوعية -- جميل مطر. صحيح أن هوليوود لم تكن تعمل من فراغ، إذ كان هناك بين المحافظين الجدد، والمتخصصين في دراسات الكرملين والشيوعية، من استمروا في نشر العداء ضد روسيا حتى وهي تحت حكم أصدقاء لأمريكا مثل جورباتشوف ويلتسين، ولكنه صحيح أيضا أن هوليوود لفتت النظر بإصرارها العنيد على تعميق العداء. فمن أعمالها المثيرة للكراهية للروس Legends ,The Last Ship, The November man وفيلم انجلينا جولي باسم Salt ، وقبلها فيلم طائرة الرئيس وقام بدور البطولة فيه هاريسون فورد، ومؤخراً مسلسل "الأمريكيون"، بل ويذكر الكثيرون منا حملة انتخابات الرئاسة الأخيرة حين وقف ميت رومني معلنا روسيا العدو الجيوبوليتيكي رقم 1 للولايات المتحدة.
ثانيا: حقق الاعتماد المتبادل عن طريق التجارة نتائج متناقضة في الوقت الذي تعلقت نظريا بإيجابياته أقطار العالم بأسره، فتغافلت عن السلبيات. حقق شبكة قوية للتجارة العالمية وشبكات مصارف قوية، ولكنه ساعد على إقامة تكتلات اقتصادية هي في الحقيقة "تكتلات إقصائية." فقد اهتم الاتحاد الأوروبي بمنع غير الأوروبيين من الحصول على عضوية الاتحاد وجعل من هذا المنع سلاحا مصوبا الى روسيا وغيرها. قامت أيضا مجموعة البريكس بغرض إقصاء "الغرب" عن مستقبل العالم النامي، وأقام الأمريكيون تكتلا عابرا للباسيفيكي يستبعد الصين وروسيا. بمعنى آخر لعبت العولمة دورا خطيرا في إثارة التوتر في العالم وتفتيت التجارة الدولية واستخدامها لتحقيق أغراض سياسية -- جميل مطر.
ثالثا: كانت العولمة تعني، لدى الغرب خاصة، ولكن أيضا لدى شعوب متطلعة في العالم النامي، قيام حكومات رشيدة تعتمد الديمقراطية وتخدم الحريات والحقوق باعتبارها "قيم عولمة" أو "قيم عالمية"، وقد حاول الغرب الربط بين حرية التجارة والحرية السياسية، كما فعل بالنسبة لماكدونالد وغيره من رموز العولمة وبين القيم الديمقراطية. قالها فريدمان في أكثر من مكان. قال إن دولتين يحظيان بوجود ماكدونالد فيهما لا يمكن أن ينشب بينهما نزاع سياسي.
لم تصمد قيم الحكومة الرشيدة، بل لعله صار واضحا لنا جميعا، في الشرق والغرب كما في الشمال والجنوب، أن هذه القيم أصبحت تتصدر قوائم النزاع والخلافات بين عدد من الدول الناهضة من جهة والدول قائدة مسيرة العولمة من جهة أخرى.
رابعا: كان التصور غير القابل للجدل وقتها، أن شبكة الإنترنت ولدت وعاشت وستظل الجهة الراعية للعولمة بامتياز، وكذلك للاعتماد المتبادل بين الأمم. لذلك لا يجوز التهوين من فداحة الضرر الذي أصاب العولمة بالتمرد الذي قام به إدوارد سنودن، وما أعقب هذا التمرد من نزاعات ليست هينة بين ألمانيا وأمريكا، وبين البرازيل وأمريكا. ولكن الأهم والأخطر هو التوتر الناشب فعلا في كل المجتمعات بين الحكومات وشعوبها حول عمليات التنصت والتجسس، وحول هدم قيم الخصوصية والكرامة الإنسانية -- جميل مطر.
***
شتان ما بين الآمال التي عقدها البسطاء من المفكرين والسياسيين في نهاية القرن الماضي على العولمة وثمارها، وبين خيبتها التي لا يخفيها الآن كل الاطراف المتضررة من العولمة. الشواهد عديدة على انحسار العولمة، ولا أقول سقوطها. نتطلع ناحية الصين فنراها تعمل منذ شهور بكل طاقتها على توسيع سوقها الداخلية ودعم قدرات المواطنين على الاستهلاك استعدادا لمواجهة قصور العولمة وتراجعها -- جميل مطر ونتطلع ناحية روسيا، فنجدها مصرة أكثر من أي وقت مضى على حماية اقتصادها وشعوبها من شرور "العولمة" التي أجبرت روسيا على الاندماج فيها فور تخلصها من استبداد الشيوعية. تحاول روسيا إقامة كيان "أوراسي" يحمي اقتصادها ويوسع دائرة نفوذها. نتطلع ناحية غرب أوروبا، لنرى ألمانيا عاقدة العزم على "ضبط " أوروبا الغربية، وعدم السماح لقوى العولمة المتطرفة بإثارة فوضى جديدة في أسواق المال والتجارة. ومن غير المستبعد أن تفاجئنا ألمانيا في القريب العاجل باقتراح إدخال تعديلات على اتفاقيات التجارة الدولية وحول انتقال رؤوس الأموال والأفراد وهي الاتفاقات التي تشبعت، مع غيرها، بروح العولمة. ولن تكون منفردة في هذا العزم فقد سبقتها المملكة المتحدة حين هدد رئيس حكومتها بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي إن لم يتخل عن بعض أهم مبادئ العولمة.
نقلت صحيفة وول ستريت جورنال عن كتاب لهنري كيسنجر يصدر يوم 9 سبتمبر القادم بعنوان "النظام العالمي" سطورا عن أزمة النظام الدولي الراهن جاء فيها قوله إن العولمة الاقتصادية في جوهرها تتجاهل الحدود السياسية للدول، بينما السياسة الخارجية تعززها وتؤكدها حتى لو كانت تسعي إلى التوفيق بين الأهداف الوطنية المتناقضة أحيانا مع المثل العالمية. يلخص كيسنجر معضلة العولمة وأزمتها الراهنة بالقول بأنه بينما النظام العالمي يعتمد على عملية العولمة لتحقيق رخائه، فإنه مدرك تمام الإدراك لحقيقة أن هذه العملية نفسها تنتج رد فعل غالبا ما يعمل ضد طموحاته.
***
قليلون هم الذين استمروا يبشرون بالعولمة ويمجدون إنجازاتها، أما الكثيرون فكادوا يسقطونها من حساباتهم وبعضهم يحاول إصلاح ما أفسدت.