هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
اليوم يبدأ العد التنازلي لآخر أيام المملكة المتحدة كما عرفناها منذ أن غربت الشمس عن إمبراطورية بريطانيا العظمى. لن تعود المملكة المتحدة، أيا كانت نتيجة الاستفتاء الذي يجري اليوم على استقلال اسكتلندا، إلى ما كانت عليه. يستطيع على كل حال أبناء الجيل الذي أنتمي إليه أن يزعموا أنهم كانوا شهودا على يوم انتهت عنده فعلا وإسما "بريطانيا العظمى" ، الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، وكانوا شهودا بعد هذا اليوم من صيف عام تأميم قناة السويس على سنوات عديدة التزمت فيها حكومات المملكة المتحدة توجيهات ونستون تشرشل وغيره من قادة الإمبراطورية لخلفائه الانسحاب المتدرج من مستعمرات في أقاليم شرق السويس وأقاليم في إفريقيا. ترك القادة أيضا وصيتين قيمتين. أوصوهم السير في ركاب الولايات المتحدة الأمريكية القطب الإمبراطوري الصاعد في نهم وشره لفرض نفوذه وقيمه على الأراضي التي رحل عنها جنود الإمبراطوريات الأوروبية المنهزمة والمنتصرة على حد سواء .. أدرك القادة أن الإمبراطورية وصلت إلى نهاية طريقها، بل وقدروا أن المملكة المتحدة التي خرجت من عباءة الإمبراطورية لن تصمد كدولة عظمى -- جميل مطر في عالم خرج من الحرب لا يتسع إلا لقطبين.
كان أمل قادة الإمبراطورية العجوز أن يشعر البريطانيون والعالم بأسره أن إمبراطوريتهم جددت نفسها بصورة أو بأخرى في إمبراطورية جديدة تنطق بلغتها وتدين بعقيدتها الاقتصادية وتبشر بقيمها السياسية، هي الولايات المتحدة. وبالفعل رأينا بعض رؤساء حكومات المملكة المتحدة وقد تقلدوا دور الناصح الذي لا يمكن لواشنطن الاستغناء عنه، باعتبار خبرة وتجارب البريطانيين في حكم العالم وفي تشكيل تحالفاته وعقد التوازنات ونشر ثقافة الغرب -- جميل مطر. لعبت مارجريت تاتشر هذا الدور بنجاح كبير ثم حاول طوني بلير الاستمرار في هذا النهج. وفعلا يبقى التاريخ شاهدا على أهمية الدور البريطاني البارز في تشجيع رؤساء أمريكيين عديدين على شن مغامرات حربية ضد دول وشعوب أخرى، وحماية انجازات " الحضارة الغربية" .
تعلقت الوصية الثانية بعلاقة المملكة المتحدة بأوروبا. لم يستطع القادة الإمبراطوريون التخلي عن " عنصريتهم" التاريخية تجاه شعوب وقيادات أوروبا وعزوفهم التقليدي عن الانغماس في مشكلاتهم وصراعاتهم، وفي الوقت نفسه أدركوا أن أوروبا التي تسببت في نشوب حربين عالميتين لا تترك لحالها، ولدى المملكة المتحدة فرصة ثمينة لتلعب دور الموازن الخارجي مستفيدة من ارتباطها الوثيق بالقطب الأمريكي الأعظم. المؤكد لنا كمراقبين من خارج الغرب هو أن سبعين عاما استغرقتها حكومات لندن لتنفيذ الوصيتين لم تصلحا من حال الشك المقيم بين ساسة أوروبا وساسة المملكة المتحدة.
***
الاستفتاء على استقلال اسكتلندا يعني أن المملكة المتحدة، حتى وإن استمرت بعده تحمل الاسم نفسه، إلا أنها في نظر أمريكا وأوروبا، لن تكون في واقع الأمر تعبيرا صادقا عن الاسم الذى تحمله -- جميل مطر. ستبقى مملكة ولكن ليست متحدة كما كانت أي ستكون مملكة أقل شأنا ومكانة ونفوذا. أكاد أنضم إلى المحللين الذين يلقون باللوم على ساسة لندن، أي هؤلاء السياسيون الذين يطلق عليهم الاسكتلنديون عبارة " جماعة وستمنستر " نسبة إلى مقر التشريع والحكم في لندن. الخطأ الأكبر الذي وقع فيه اللورد كاميرون، إذا كنا نعتبر أن الانفصال تطور تعيس، هو أنه لم يضع أمام الشعب الاسكتلندي خيارا ثالثا الى جانب خياري الاستقلال والاستمرار، خيار يسمح بانتقال سلطات أكثر وأوسع للقيادات المحلية في اسكتلندا.
"القوميون " الاسكتلنديون المطالبون بالاستقلال يتهمون حكام لندن بأن سياساتهم الاقتصادية تسببت في انحدار الصناعة في اسكتلندا وإغلاق العديد من المصانع وبطالة عمالها. هم أيضا مسئولون عن تدهور نظام الرعاية الصحية في بلادهم وعن ارتفاع تكلفة الرسائل البريدية !. قد يكون في الاتهامات مغالاة أو سوء تقدير كما يحدث دائما في مطالب القوميين الانفصاليين في كل مكان، فالتدهور الصناعي حدث في كل أركان القارة الأوروبية وليس فقط في اسكتلندا بسبب انتقال مراكز الصناعة إلى آسيا وبخاصة الصين. من ناحية أخرى، مازال الاسكتلنديون يحصلون على مزايا اجتماعية وصحية تفوق ما يحصل عليه المواطن في إنجلترا وويلز وإيرلندا الشمالية -- جميل مطر. يعود هذا الامتياز في حقيقة الأمر إلى أن الاسكتلنديين استطاعوا بمهارة سياسية فائقة الحصول من الحكومة المركزية في لندن على مكتسبات اجتماعية وفيرة مستخدمين التهديد بالانفصال.
لاشك في أن الأداء السياسي لحكومة لندن لم يكن على المستوى المنشود، ولكن لاشك أيضا أن الانفصاليين لم يرتبوا مواقفهم واسبقياتهم بحسب الاهتمامات الاقتصادية بقدر ما رتبوها متأثرين بالعاطفة. إن كل من اتيحت له زيارة الجزر البريطانية وقراءة تاريخ العلاقات بين شعوبها يعرف جيدا أن المسألة القومية في هذه الجزر ظلت حية لمئات السنين. بل ويعرف أيضا أن الأساطير الوطنية والقومية مازالت تحرك مشاعر ومواقف أهل اسكتلندا أكثر من أي اعتبار مادي. أحد العاملين في الحفل الثقافي في إدنبره قال لي ذات زيارة إن الاسكتلنديين لم يكفوا عن التمسك بالأساطير القومية واختراع أساطير جديدة إلى درجة أنهم صاغوا أسطورة تحمل اسم الممثل الشهير ميل جيبسون. يقول الصديق من إدنبره إن الفيلم السينمائي BRAVEHEART الذي أدى فيه جيبسون دور البطل الأسطوري ويليام والاس لعب دورا كبيرا في تصعيد روح الاستقلال ومشاعره في اسكتلندا.
***
مرة أخرى تطغى قضية الهوية على غيرها من القضايا التي حركتها مسيرة العولمة وتصاعدت مع أزمات النظام الرأسمالي على امتداد الثلاثة عقود الماضية. مرة أخرى تتعرض أهم تجربة في تاريخ أوروبا إلى تهديد للقيم والمبادئ والإنجازات التي يفخر بها الاتحاد الأوروبي -- جميل مطر. كان هدف السياسيين الأوروبيين إقامة أوروبا الموحدة على حساب سيادة الدول الاعضاء، فإذا بنا أمام حركات انفصالية تستفيد من تراجع مبدأ السيادة وتسعى للانضمام لأعضاء مستقلين كاملي الإرادة في الاتحاد الأوروبي. أتصور أن إسبانيا مثلا لن تسمح بانضمام اسكتلنده في حال استقلت إلى الاتحاد الأوروبي، وأتصور أن فوز الانفصاليين في استفتاء اليوم سيرفع من معنويات أهل كاتالونيا وشعوب أخرى في القارة الأوروبية تسعى لتحقيق شخصيتها وإرادتها الحرة، ولكن في سياق هوية أوروبية أوسع.
لا خلاف على أن ظاهرة الانفصال تحمل تناقضات تثير الشكوك في فرص نجاحها. هؤلاء الذين يطالبون بالاستقلال والسيادة يعرفون جيدا أن القيود على السيادة وحرية القرار المفروضة على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تزيد عن القيود المفروضة على حرية أقاليم ومقاطعات عديدة في تلك الدول. لا خلاف أيضا على أن تكلفة الدفاع والأمن في دول حديثة الاستقلال قد تمثل عبئا لا تحتمله اقتصاداتها، وإن قبلت الانضواء في حلف دولي فمعنى قبولها هذا تنازلها عن جانب من إرادتها وحريتها وسيادتها.
ينتهي الجدل غالبا بالاعتراف بأن تأكيد الهوية والاعتراف بها والدفاع عنها هي العناصر الأهم في نشوب حركات الانفصال والسعي إلى الاستقلال.