هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
كشف مؤرخ هندي عن أن حكومة الهند فكرت في عام 2003 المشاركة في الحلف الذي شكلته الولايات المتحدة لشن حرب ضد العراق. قال إن الفكرة طرحت على الولايات المتحدة التى رحبت بها واعتبرتها خطوة استثنائية تدعم الحلف والحرب معا.. ولكن لم تمض أيام إلا وسحبت الهند فكرتها من على بساط المفاوضات، وكانت حجتها أن الرأي الغالب بين نخبة السياسة الخارجية الهندية رفض الفكرة واعتبرها خروجا لا يمكن تبريره عن التزام الهند احترام الأمم المتحدة والعمل الجماعي الدولي، واعتناقها مبدأ عدم الانحياز.
جاءت هذه الشهادة من جانب المؤرخ الهندي رودرا شودري لتؤكد حقيقة كدنا في مصر والعالم العربي ننساها، وهى أن للسياسة الخارجية مبادئ، بعضها قابل للتطوير، وبعضها عنيد وصامد في مقاومة تقلبات الأنظمة الحاكمة وصراعات الأجهزة وجشع جماعات الضغط وصعود الدول وانحدارها.
***
كنا، خلال أيام قليلة مرت الشهر الماضي، شهودا على تطور هام في العلاقة بين الولايات المتحدة والهند، وهو الزيارة التي قام بها ناريندرا مودى الرئيس الهندي الجديد إلى الولايات المتحدة. التقى رئيسان، أحدهما قادم للتو من غياهب التطرف الديني والعنف السياسي، متمتعا بشعبية غامرة ومتصاعدة، ومطمئنا إلى سنوات عديدة في الحكم استنادا إلى أغلبية برلمانية كبيرة، وممثلا لدولة أجمعت قطاعاتها وتياراتها على حق الهند في أن تصعد إلى مصاف الدول العظمى.
الثاني رئيس يستعد للرحيل، خارجا لتوه من فترة تكومت خلالها قرارات سياسية متعثرة الولادة وضعيفة البنية. يقود نظام حكم يسعى بصعوبة شديدة لإقناع بعض قطاعات وتيارات بلاده أن أمريكا على طريق الانحدار، ولكن تستحق أن تمارس دور الدولة القائد طالما لم تظهر لتولي القيادة أو حتى المشاركة فيها، دولة أخرى تستحق هذا الدور ومستعدة لتحمل مسئوليته. قليلون بين محللي السياسة الخارجية استطاعوا سبر أغوار هذه التجربة النادرة وتحليل سلوكيات القائمين عليها، تجربة دولة عظمى اكتشفت عناصر في نخبتها الحاكمة حقيقة أنها دخلت طريق الانحدار.
الاثنان، الزعيم القادم من التطرف والزعيم الجاهز للرحيل يعرفان حق المعرفة أن سمة الديمقراطية والانتخابات الحرة التى تتميز بهما الدولتان، لم تمنع نشوب خلافات عديدة بينهما على امتداد أكثر من ثلاث أرباع القرن. وقد بدا واضحا خلال هذه الزيارة أنه ليس في نية الطرفين التمرد على هذا الوضع، بقدر اتفاقهما على تطويره دون تغيير معالمه الرئيسية ومنها برودة العلاقة. يعنى هذا مثلا أن تتنازل أمريكا عن موقفها المعادي لشخص رئيس الجمهورية الهندية، وهو الممنوع منذ سنوات من دخول أمريكا بسبب تستره على مجزرة في ولاية جوجارات التي كان يتولى الحكم فيها، يعني أيضا أن حكومة الرئيس مودى لن تتخلى في وقت قريب عن سياستها "السلبية" دوما تجاه الشرق الأوسط، أي لن تخضع لضغوط أمريكية تطالبها بالتدخل وسيطا أو حليفا أو مشاركا في أزمات المنطقة.
***
كانت الهند، ومازالت في ظل حكومة التشدد الهندوسي، حريصة على أن تكون علاقاتها هادئة مع مصادر النفط والغاز على ناصيتي الخليج، أي ايران والدول العربية الخليجية. هي حريصة أيضا على عدم الدخول في مواجهات "دينية" مع المسلمين خارج شبه جزيرة الهند، فمصالحها في أفغانستان تجعلها حساسة تجاه أي دور سياسي تقوم به في المستقبل يحرمها من فرصة إعادة فرض هيمنتها على أفغانستان، وهي الهيمنة الموروثة عن حكومة التاج البريطاني في القرن التاسع عشر.
يعرف المتابع لشئون الهند، أن الحزب الذي حمل السيد مودى إلى الرئاسة يعج بتيارات عنصرية ومتشددة، ولكن أيضا بتيارات "واقعية " تريد إقناع الدول الأجنبية بأن "هندوسية" الحزب معتدلة، وأنه يمكن لواشنطن الاعتماد عليهم إن أرادت أن يتحقق في شبه جزيرة الهند استقرار سياسي ونهضة اقتصادية. لم يكن مفاجئا أن ترتفع قبل الزيارة أصوات في أمريكا تحذر من نوايا الرئيس الجديد الذي مازال يعتمد على العناصر الدينية الأشد تطرفا، وهي العناصر التي ترفع شعار "الهند الكبرى" جميل مطر ، أي الهند التي تضم نيبال وسيريلانكا وبنجلاديش وباكستان وربما أفغانستان أيضا إن سمحت الظروف مستقبلا في روسيا والصين. هؤلاء ينادون بأن الهندوسية دين وثقافة وتاريخ ويتعين على العالم الخارجي الاعتراف بها. سمعتهم وهم يلقنون الشباب الهندي في الداخل والخارج شعار "الماضي الزاهر طريق المستقبل الزاهر" . شعار لا يبتعد كثيرا عن شعارات مماثلة في الشرق الأوسط اهلكت الحاضر والماضي معا، وتكاد تئد المستقبل وهو في المهد رضيع وضعيف جميل مطر.
***
كان الرئيس مودى خلال الزيارة واضحا في عرض سياسات بلاده في ظل رئاسة الهندوسية. أكد انه لن يشارك في أي جهد دولي لعزل إيران، ولن يغامر بسياسة نشطة أو ايجابية في الشرق الأوسط حيث ملايين الهنود يعملون أو يعيشون، وحيث الاعصاب مشدودة وبخاصة بكل ما يتعلق بالأديان. نقل أيضا إلى واشنطن رغبة الهند المتواصلة منح أمريكا تأشيرات دخول لشباب من الهنود يريد أن يتعلم أو يحصل على مهارات معينة، فالتجربة الهندية في هذا المجال كانت ممتازة سواء عندما عاد المبعوثون إلى الهند أو استوطنوا الخارج. راح أيضا يطالب بتعاون سلمى نووي. فهو يعرف، مثلما عرف الإيرانيون، أن التقدم العلمي لن يتحقق بالسرعة الواجبة إلا عن طريق خبرات وتجارب في حقل العلاقات النووية. وفي النهاية لم يختلف الرئيس الهندي عن أي رئيس من دول الجنوب يزور أمريكا حين أصر على أهمية بيع السلاح المتقدم إلى الهند جميل مطر.
***
أتصور أن النجاح الذى حققه منظمو احتفال الجالية الهندية فى أمريكا بالرئيس مودى في ميدان ماديسون بنيويورك، يعنى أمورا كثيرة ليس أقلها شأنا، تأكيد ما تردد من قبل عن أن الهنود لجأوا إلى الخبرة الإسرائيلية في تشكيل جماعات ضغط موالية لإسرائيل، تعتمد أساسا على الجالية اليهودية ولكن أيضا على الشركات الكبرى والأفراد من أصحاب المصالح في الشرق الأوسط ومتخصصين أكاديميين وعسكريين متقاعدين.
نجاح الاحتفال تنظيما وحضورا يعني أيضا أن روحا جديدة تهيمن الآن على أبناء الجالية الهندية في الغرب عموما وأمريكا خصوصا، وبما يعني أن حكومة مودى استطاعت أن تكسب ثقة الهنود في الخارج في أن تفلح في استعادة " كرامة" الإنسان الهندي في الداخل، وبالتالي كرامة الهندي في الخارج، وأنها سوف تنقل الهند اقتصاديا وثقافيا من حال فساد طاحن وفوضى اخلاقية وانهيار في القيم إلى حال مختلف.
***
قد لا يكون ناريندرا مودى الزعيم الذى يتمناه "الثوريون العرب" رئيسا للهند في الظرف الانتقالي الراهن في الشرق الأوسط بسبب تطرفه الديني، ولكن المؤكد أنه نجح فى عرض نفسه نموذجا لحاكم دولة كبيرة جميل مطر من دول الجنوب الناهض يرتدي قميصا بسيطا من القطن، ولا يأكل إلا فيما ندر، وغير فاسد. حاكم قرر أن يعتنق مبادئ فى السياسة الخارجية كانت من الأسس التى رفعت الهند وغيرها ذات يوم إلى مواقع التأثير والنفوذ فى عالم السياسات الدولية. أتصور أن الفضل هنا، أي في قرار مودي التمسك بمبادئ موروثة في صنع السياسة الخارجية، يعود إلى صلابة وحكمة النخبة الإدارية الهندية التي ما زالت تؤكد بين الحين والآخر قدرتها على أن تفرض بعض تقاليدها وخبرتها على حكام الهند أيا كانت خلفياتهم.