هذا المقال بقلم راوية توفيق، مدرسة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
"في الثلاثين من أكتوبر انطلق الربيع الأفريقي ليلحق بالربيع العربي"، هكذا علّق زعيم المعارضة البوركيني "إيميل باري" على احتشاد الجماهير في العاصمة البوركينية "واجادوجو"، وغيرها من المدن الكبرى لإفشال مساعي الرئيس "بليز كومباوري" لتعديل الدستور للسماح له بفترة رئاسية جديدة. في غضون أيام قليلة احتلت الأحداث في بوركينافاسو، هذا البلد الصغير في غرب أفريقيا، عناوين الأخبار وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة بعدما دفعت التظاهرات الرئيس "كومباوري" إلى التخلي عن السلطة، والهرب إلى خارج البلاد بعد سبعة وعشرين عاماً قضاها في حكم البلاد.
خلقت هذه الأحداث المتسارعة زخماً وأثارت حنيناً لأيام كان يشارك فيها العالم شعوب الشمال الأفريقي المنتفض أحلامهم بالتغيير بعد عقود في ظل نظم أهدرت كرامتهم، ونهبت ثرواتهم. احتفى بعض الكتاب والمحللين بقدرة الحراك الشعبي على الإطاحة برئيس مدعوم فرنسياً، وتنبأ اَخرون بنهاية ظاهرة "رئيس مدى الحياة" التي ميزت السياسة الأفريقية منذ الاستقلال، وذهب فريق ثالث إلى أبعد من ذلك معتبراً هذه الاحتجاجات إحياءاً لمشروع الزعيم الثوري "توماس سانكارا" الذي قاد بوركينافاسو في الفترة من 1983-1987، والذي اغتاله كومباوري بدعم فرنسي. وكان "سانكارا" قد رفع شعارات مكافحة الاستعمار الجديد وطبق سياسات ثورية في مجالات مكافحة الفساد، والإصلاح الزراعي، وتحسين جودة التعليم، وتمكين المرأة.
وقد رصد هذا الفريق الأخير زيادة الاستثمارات الأجنبية في مجال التعدين وصادرات البلاد من الذهب خلال العقد الأخير، دون أن يوازي هذه الزيادة تحسن في مستوى المعيشة والخدمات. ففي حين وصل معدل النمو، وفقاً لتقديرات بنك التنمية الأفريقي، إلى 9% عام 2012، ظلت بوركينافاسو من أسوأ عشر دول في معدل التنمية البشرية. وقد كان ذلك دافعاً لاحتجاجات وإضرابات شاركت فيها الحركات العمالية والطلابية.
ففي عام 2008 شهدت البلاد مظاهرات احتجاجاً على غلاء المعيشة. وفي فبراير 2011، تحولت المظاهرات التي بدأت بعد مقتل طالب احتجزته قوات الشرطة من تظاهرات استهدفت أقسام الشرطة والمعتقلات إلى حركة ضد سياسات النظام التي أدت إلى ارتفاع الأسعار وارتفاع معدل البطالة. هذا إلى جانب إضرابات بعض عمال المناجم في فترات متفاوتة خلال العامين الماضيين. لم تكن أحداث الثلاثين من أكتوبر، إذن، سوى حلقة في سلسلة الحراك الشعبي ضد سياسات نظام "كومباوري" ومؤسساته.
***
ورغم نجاح هذا الحراك في الإطاحة بالرئيس، يبدو أن ملامح وسياسات نظام ما بعد "كومباوري" لن تحددها ميادين الثورة، ولكن سترتبها موائد السياسة. فبعد أن تولى الجيش السلطة، وتحت ضغط من الاتحاد الأفريقي وبعض الحكومات الغربية، تجري مشاورات بين المؤسسة العسكرية، وأحزاب المعارضة، والقيادات التقليدية للاتفاق على تسليم السلطة الانتقالية إلى حكومة مدنية تهيأ البلاد لإجراء انتخابات خلال عام. وبفرض تسليم السلطة إلى حكومة مدنية، ليس من المتوقع أن يغيب الجيش، الذي ظل مهيمناً على السياسة في البلاد منذ ما يقارب خمسة عقود، عن الترتيبات السياسية قبل وبعد انتخاب الرئيس الجديد. بالإضافة إلى ذلك، فإن تغلغل الشركات الأجنبية في الاقتصاد البوركيني سيخلق ضوغطاً لعودة "الاستقرار" إلى البلاد بشكل يسمح باستمرار نشاط هذه الشركات التي استثمرت ملايين الدولارات بحثاً عن ثروات جديدة. وكانت بعض هذه الشركات، وعلى رأسها شركات "أوريزون" الكندية، قد أعلنت تعليق نشاطها إلى حين استقرار الأوضاع السياسية. وقد تدعو تلك الأوضاع إلى البحث من جديد عن "رجل قوي" يحظى بتأييد أجهزة الدولة القائمة ولا يهدد مصالح مراكز القوة السياسية والاقتصادية التي تشكلت في عهد "كومباوري". وفي كل الأحوال لن يستطيع الرئيس القادم، سواءً أتى من خلفية مدنية أو عسكرية أو مثل النظام السابق أو المعارضة، أن يتجاهل هذه المصالح.
***
تفرض هذه المعطيات أن ننظر إلى التحولات في المشهد البوركيني، وغيره من مشاهد الاحتجاج التي تصاعدت في عدد من العواصم الأفريقية في السنوات الثلاث الماضية، بكثير من الحذر. فقد خلقت انتفاضات الميادين واقعاً دعا القادة الأفارقة إلى أن يدركوا رغماً عنهم ما تظاهروا بعدم فهمه لسنوات، وهو أن بقائهم في السلطة إلى الأبد لم يعد مضموناً ولا مرغوباً. ولكن هذه الانتفاضات، التي لا تستند في الغالب إلى قوة منظمة تحمل مشروعاً بديلاً متكاملاً يستطيع التعامل مع مراكز القوة السياسية والاقتصادية السائدة منذ عقود، لا تضمن التغيير في السياسات بما يضمن تحقيق مطالب هذه الثورات. وبذلك يصبح التغيير المنشود، والذي قدمت الشعوب الأفريقية الثائرة تضحيات لتحقيقه، مفقوداً حتى تجد أصوات ميادين الثورة صداها على موائد السياسة.