مقال للشيخ سلطان بن أحمد القاسمي، رئيس مركز الشارقة الإعلامي بإمارة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
وضعت الأحداث الأخيرة التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس مفهوم الاتصال الحكومي على محك الاختبار مرة أخرى، حيث أظهرت تلك الأحداث وبكل وضوح أن عدد الفاعلين في ساحة تشكيل الرأي العام قد زاد، ولم يعد مقتصراً على الجهات الحكومية التي تملك المنابر والمؤسسات الاعلامية والمحطات الفضائية.
قبل أن تنتهي تداعيات الحادث، كانت مواقع التواصل الاجتماعي ملأى بالصور والفيديوهات التي تقدم الحدث متبوعاً بتفسيرات وتحليلات شبه جاهزة، مستندة في ذلك على أجنداتها وعلى قدراتها في توظيف الحدث ليصب في خدمة هذه الأجندات.
وتستند هذه الفئات في ترويج روايتها على مخزون هائل من الاحتقان المزمن، وعلى خريطة جيوسياسية وايديولوجية رسمتها تراكمات عقود طويلة من الصراعات التي لم تحلّ وبقيت تفعل مفاعيلها في عمق الوجدان الشعبي. هذا الأمر وضع الرواية الحكومية حول ما جرى وأهدافه وكيفية التعامل معه في خانة التنافس الشديد مع هذه الفئات وأجنداتها.
لا نجافي الحقيقة إذا قلنا، إن الرواية الرسمية هي الأضعف في غالب الأحيان، خصوصاً في بدايات الحدث، فهي تتسم بالدعوة الى العقلانية والتروي وضبط النفس وعدم الإنجرار وراء الإنفعال اللحظي، وهذا ما لا يجد آذاناً مصغية في البدايات إلا إذا ترافقت هذه الدعوات العقلانية والضرورية مع تفسير منطقي وسريع لتداعيات الحدث، حيث لا تزال الساحة ساخنة وعرضة لتقبل أي تفسيرأخر.
فعندما يقع الحدث، ترافقه لحظة من الإثارة والتفاعل العنيف مما يجعل الرواية الرسمية بعيدة عن الوجدان الشعبي إذا اقتصرت على المنابر والوسائل واللغة التقليدية فقط.
وهكذا أثبتت التجربة أن الروايات الأولى التي تسبق غيرها ستستمر مفاعيلها في التأثير على الرأي العام لمدة طويلة، لأنها رافقت لحظات الجهوزية النفسية لدى الجمهور لتلقي المعطيات والتفسيرات -- سلطان بن أحمد القاسمي ، فتلك اللحظات تتسم بالخوف والهلع والخشية من المجهول مما يجعل أي توضيح من أي جهة وبأي رسالة كانت، عبارة عن طوق نجاة ينقذ الجمهور من التخبط في بحر حيرته.
كيف يمكن ضبط جمهور يبحث عن الإثارة والتفاعل العنيف مع اللحظة لتفريغ الإحتقان النفسي والايديولوجي بمجرد سماعه لمسؤول حكومي يدعو إلى التأني وضبط النفس ولا يقدم له حقيقة ما جرى بالسرعة اللازمة؟ هذا ناهيك عن التشكيك القديم والتقليدي بالرواية الرسمية بأنها أحادية ومتفردة ولا تأخذ في الاعتبار نبض الشارع وتفاعله ورغبته الملحة في سماع الحقيقة بتفاصيلها بالشكل الذي يروي تعطشه للفهم والمعرفة؟ وكيف لنا أن نقنع الجمهور بالإنتظار حتى تصدر الرواية الرسمية من خلال إدارات الإتصال الحكومي التي ستأتي متاخرة دوماً إذا اعتمدت على الوساائل التقليدية وتركت ساحات التواصل الإجتماعي خالية إلا من تلك الفئات التي تقتنص الفرص لتعيد صياغة الأحداث والتأسيس لرأي عام قد يصعب إعادة تشكيله مرةً أخرى؟
الأحداث بحد ذاتها تتسم بالحيادية لكن الحقيقة هي دائماً صناعة ومجهود بشري عندما تدخل في اشتباك مع أجندات التضليل. على صناع الحقيقة وقادة الرأي الانحياز إلى الحس الشعبي العفوي والتسلح به والتواصل معه بصدق فهذا الحس هو الوجدان الذي حمى الحقيقة ودافع عنها منذ فجر التاريخ حتى اليوم.