هذا المقال بقلم ابراهيم عوض، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
يوم الأحد 19 آبريل صدم العالم غرق مركب في عرض البحر المتوسط لقى مصرعهم من جرائه 900 شخصا ولم ينج إلا ما يناهز العشرين ممن حاولوا الهجرة من البؤس، تطلعا إلى حياة كريمة في القارة الأوروبية. المجتمعات المدنية والسلطات والجانب الأكبر من السياسيين ووسائط الاتصال في الاتحاد الأوروبي شعروا بوقع الصدمة هائلا. الاتهامات وُجهت شديدة إلى الاتحاد الأوروبي وتعلقت بسياسته للهجرة التي اعتبرت قاصرة لا تخصص الموارد الكافية لبرنامج عمليات البحث والانقاذ في البحر المتوسط. من وجهوا الاتهام أشاروا إلى أن مخصصات البرنامج الحالي أقل من مخصصات سلفه الذي موّلته إيطاليا وحدها والذي تذهب التقديرات إلى أنه أنقذ 150,000 شخصا خلال عام واحد تقريبا حتى انتهى سريانه في شهر أكتوبر الماضي.
وامتدت الانتقادات إلى ما وراء ذلك، فتناولت نفس الوظائف الأساسية للوكالة الأوروبية لمراقبة السواحل الأوروبية "فرونتكس" التي تجوب قواربها المتوسط لحماية أقاليم الدول الأعضاء من تسلل الغرباء إليها، فتشكل تكلفة على الاتحاد دون أن تنجح في مسعاها، ومعرضة حياة عشرات الألوف للخطر. ونحى آخرون بالمسئولية على سياسات بخيلة للجوء ولإعادة توطين اللاجئين ودعوا الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى أن تكون أكثر سخاء، خاصة مع اللاجئين السوريين الذين اكتظت بهم الدول المجاورة وضاقت سبل حياتهم فيها. أما معلقون آخرون فاختاروا التنبيه إلى ضرورة تشديد التضييق على عصابات الإتجار في البشر التي تقذف بالطموحين إلى حياة أفضل إلى التهلكة وتحقق من ورائهم الأرباح الطائلة. ولأن المركب الغارقة يوم الأحد الماضي وأغلب تلك التي حاولت عبور المتوسط في العام الماضي أبحرت من ليبيا، فلقد شدد كثير من المعلقين على ضرورة علاج الصراع في ليبيا وإعادة بناء السلطة المركزية فيها.
في ذهابها إلى ضرورة تحرك الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء بالأشكال المذكورة، حدّدت المجتمعات المدنية ووسائط الاتصال الأوروبية إذن ما اعتبرته أسبابا للمأساة الإنسانية في المتوسط وذكّرت بالقيم الأساسية لأوروبا المتمثلة في حماية حقوق الإنسان، والكرامة الإنسانية، وفي المسئولية والتضامن البشري، وهي القيم التي تعتبر أسس الوضع الأخلاقي المميز الذي يحرص الاتحاد الأوروبي على أن يرى فيه نفسه وعلى أن يعترف به الآخرون. ولأنه يمكن تقدير أن التهاون في احترام هذه القيم الأساسية فيه انتقاص من إنسانية الأوروبيين أنفسهم وأنه يعرِض نفس شرعية الاتحاد الأوروبي داخليا وأمام العالم الخارجي للخطر، فلقد سارع قادة دول الاتحاد إلى عقد قمة مخصصة لمأساة المتوسط يوم 24 إبريل، أي بعد أربعة أيام من وقوع الكارثة الأخيرة، وأعلنوا أنهم سيدرسون وضع برنامج من عشر نقاط لمواجهة المأساة من بينها إتاحة خمسة آلاف فرصة لإعادة توطين اللاجئين السوريين توزع على الدول الأعضاء حسب قدرة كل واحدة منها.
***
التحرك الأوروبي قد يكون متأخرا ولكنه إيجابي ومشكور. والمراقب يلاحظ أيضا تطورا إيجابيا آخر ألا وهو أن الغرقى وصفوا بالمهاجرين وعملية عبورهم البحر المتوسط بالهجرة وأنه غاب عن كل ردِ فعل سياسي أو تغطية صحفية وصف هؤلاء المهاجرين "بغير الشرعيين" أو هجرتهم "بغير الشرعية"، وهو وصف يبدو وكأن كل ما يعني القائلين به خروج عملية الهجرة عن القوانين وتجريم المقدمين عليها، بدون اعتبار لما إذا كانت هذه القوانين في بلدان المنشأ أو الاستقبال منصفة وواقعية أم لا، ولا للعوامل السياسية والاقتصادية الطاردة أو الجاذبة لهؤلاء المهاجرين، سواء كانوا مهاجرين من أجل العمل أو لاجئين يفرّون من النزاعات المسلحة وآثارها. ولا يملك نفس المراقب إلا أن يتمنّى أن تكفّ الدوائر السياسية ووسائط الاتصال في بلادنا عن تكرار نغمة "غير الشرعيين"، أولا لأنها نغمة تصرف النظر عن أسباب الظاهرة وتكتفي بالتركيز على شكلها، وثانيا لأنه وفي نهاية الأمر إن كان ثمة متضرر من "غير الشرعية" فهو بلدان الاستقبال، وثالثا، وهو أضعف الإيمان، لأن الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين، ومصر أول دولة في العالم صدّقت عليها، أطلقت على شكل الهجرة هذا مصطلح "الهجرة غير المنظمة"، مبتعدة عن الحكم عليها بالشرعية أو غير الشرعية.
إلا أنه وعلى الرغم من إيجابية رد الفعل الأوروبي فإن المرء يعتريه الشك فيما إذا كانت مرتكزاته يمكن أن تؤدي إلى حلول فعّالة لمأساة محاولات عبور البحر المتوسط، بل إن التشكك يصل إلى ما إذا كان الاتحاد الأوروبي وحده يستطيع إيجاد هذه الحلول أو ابتكارها، سواء كان ذلك عبر سياسات الهجرة واللجوء أو السياسات المتوسطية الموجهة لبلدان البحر العتيق بالذات. صحيح أن ميزانية البحث والانقاذ شحيحة الموارد ولكن زيادة إمكانيات "فرونتكس" ستعزز فرص الإنقاذ غير أنها لن تحول دون أن يعرِض البشر أنفسهم لاستغلال عصابات تهريبهم والإتجار فيهم والمقامرة بحياتهم. وليس من شك في أن انهيار السلطة في ليبيا قد جعلها قاعدة سهلة لنشاط عصابات الإتجار بالبشر ولانطلاق المراكب المتحدية لسياسات الهجرة الأوروبية. ولكن هل تعدم هذه العصابات قواعد بديلة إلى الغرب من ليبيا أو على المحيط الأطلسي حتى وإن ارتفعت تكاليف نشاطها فيها؟ وبالتأكيد لا بدَ أن يعبرّ الاتحاد الأوروبي عن تضامنه الفعلي والفعّال مع اللاجئين السوريين ومع الدول المضيفة لهم بمنحهم مزيدا من فرص إعادة التوطين. ولا جدال ممكن في أن الدول الأعضاء في الاتحاد يجب أن تكفّ عن خداع نفسها وأن تعترف بحاجة اقتصاداتها الحديثة وغير المنظمة معا إلى اليد العاملة الأجنبية. ولكن اللاجئين السوريين قليلون بالنسبة إلى من يعبرون المتوسط وإلى من يهلكون فيه. تقدِر المنظمة البحرية الدولية أن عدد من سيحاولون عبور المتوسط في العام الحالي يمكن أن يصل إلى نصف المليون، وهو عدد يستحيل تصور أن تسمح أي تعديلات في قوانين الهجرة باستيعابه في دول الاتحاد الأوروبي.
***
حقيقة الأمر أن مأساة المتوسط تبدو نتيجة لآفة أكبر هي البؤس في العالم. بؤس سياسي تتفوق منطقتنا، بلا فخر، على مناطق العالم الأخرى خبرة به. وبؤس اقتصادي ترتب على نظام اقتصادي دولي أنتج فجوات متزايدة الاتساع في الدخول والثروات بين الدول وفي داخل كل واحدة منها، وتولّد عنه الفقر والبطالة في جنوب العالم وفي شماله أيضا. أليس جديرا بالانتباه إلي أن نسبة كبيرة من ضحايا المتوسط ليست من مواطني دوله بل من الدول الواقعة إلى جنوبها في إفريقيا، ومن إريتريا في القرن الإفريقي، بل ومن آسيا، من بنجلاديش خصوصا ومن غيرها؟ ألا يمكن اعتبار هجرة هؤلاء بداية غير واعية لإعادة توزيع السكان في العالم، ولجمع عنصر العمل الذي يمثلونه برأس المال المتوفر في بلدان المقصد الأوروبية، وهي نفسها بلدان يعاني الكثير منها معاناة شديدة؟
الهجرة ليست إلا عرضا لمشكلات عميقة ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية وسياسية. لعل قادة الاتحاد الأوروبي ومعهم المسئولين في بلداننا يتنبهون إلى ضرورة علاج هذه المشكلات وان يقنعوا دول العالم الأخرى بما تنبهوا إليه صونا لقيم الإنسانية وللتضامن والسلام بين البشر.