البحر المتوسط ومأساة الهجرة: مقاربة أمنية ومسؤولية أخلاقية

العالم
نشر
7 دقائق قراءة
البحر المتوسط ومأساة الهجرة: مقاربة أمنية ومسؤولية أخلاقية
Credit: ARGIRIS MANTIKOS/AFP/Getty Images

الرباط، المغرب (CNN)-- أخطأ الذين اعتقدوا أن العدد المهول لضحايا غرق المركب المملوء بالمهاجرين السريين سيكون منعطف المقاربة الجديدة المنشودة في تعامل الاتحاد الاوروبي مع تدفقات الحالمين بالفردوس أو الهاربين من بؤر الجحيم في جنوب الحوض المتوسطي.

خمن ناشطو المنظمات الانسانية والاغاثية والحقوقية أن الضحايا الذين تراوح عددهم حسب التقديرات بين 700 و900 قتيل، ربما قدموا أنفسهم قرابين لتدشين مرحلة جديدة تفتح فيها أبواب أوروبا " المحرجة" و "الغارقة في الشعور بالذنب" أمام الساعين الى ملاذها، لكن يبدو أن الحرج اتخذ لدى قادة القارة العجوز مفهوما آخر. الرسالة كانت واضحة في القمة الاستثنائية  ان كانت المقاربة الأمنية قد أبانت عن محدوديتها، فينبغي تشديدها وتعزيزها بتدابير نوعية غير مسبوقة، لا إلغاؤها. اللهجة خلال القمة الاستثنائية للاتحاد الاوروبي جاءت شبه عسكرية. العزم معقود على تقوية التواجد البحري ومحاربة شبكات التهريب لمنع المراكب من الإقلاع من جنوب ذلك " الجدار الطبيعي العازل"، البحر الأبيض المتوسط الذي يراد له أن يحمي المحظوظين من طمع البؤساء، والمتحضرين من غزو البرابرة. لكن لا مجال للحديث عن مرونة أكبر في استقبال الهجرة القانونية والتوسع في الاحتضان الإنساني للاجئين الفارين من حرائق الحروب. 

بيان القادة الأوروبيين شدد على تعزيز التواجد البحري لكنه لم يلبي مطلب برنارد كوشنير وزير الخارجية الفرنسي السابق ومؤسس منظمة " أطباء بلا حدود" الذي انتقد التلكؤ الاوروبي في التحرك وطالب بتشكيل أسطول بحري للإنقاذ. 

يمكن للمرء أن يتفهم منطق حق أوروبا في حماية حدودها، هي التي صرح أحد ساستها يوما بأن القارة لا يمكن أن تستوعب بؤس العالم. لكن المنطق نفسه سيحمل حينئذ أوروبا على إسقاط شعاراتها البراقة التي طالما رفعتها في سياستها الخارجية المشتركة، حول التنمية المشتركة والمسؤولية الأخلاقية تجاه الجنوب وإرساء فضاء الأمن والرفاه والاستقرار في المجال المتوسطي.

تود أوروبا لو يتم التركيز على الحدث المأساوي بوصفه نتيجة لوضعية طارئة صنعتها حالة الانهيارات السياسية والأمنية التي اتسعت رقعتها في جنوب المتوسط في خضم تداعيات الثورات العربية، خصوصا في ليبيا وسوريا، والحال أن المأساة قديمة تصمد في وجه السنين والقرارات والمؤتمرات، لأن معطياتها على الأرض لم تتغير: ثمة أوضاع طاردة في الجنوب: اختناق سياسي وخرق حقوقي وعجز تنموي، وأوضاع جاذبة في الشمال المصنع الذي مازال يغري بالمخاطرة رغم الأزمات الاقتصادية التي ضربت بلدان جنوب أوروبا على وجه الخصوص. 

أوروبا أرادت دائماً أن تكون دول الجنوب الشريكة في اطار المسار الأورومتوسطي، دركيا مسلحا يحمي نموذجها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني، لذلك فشلت المقاربة " العرجاء"، ولذلك ستفشل الحملة "العسكرية" المعلنة ضد المهربين وتجار البشر، باسم حقوق الانسان، علما أن الحكومة الإيطالية كانت اقترحت شن عمليات هجومية محددة ضد مراكب المهربين، لولا صعوبة التأطير القانوني والتنفيذ العملياتي لهذا المقترح.

 ينبغي استحضار أن فكرة منح المرشحين للهجرة فرصة البقاء في بلدانهم من خلال مفهوم التنمية المشتركة التي يتم في إطارها تقاسم خبرات النمو ومحفزاته وإدماج الهامش في شبكات التبادل المادي والرمزي على الصعيدين الإقليمي والدولي، لم تكن غائبة تماماً عن الأدبيات المختصة باشكالية الهجرة ومستقبل الفضاء المتوسطي عموما، لكن على المستوى المؤسساتي والعملياتي، يعترف معظم الفاعلين الأوربيين، من النخبة القيادية والنخبة العلمية البحثية على حد سواء، بأن الاتحاد الاوروبي لم يبلور قط سياسة إرادية جذرية تسمح بالتأثير في الأرضية التي تنتج قرار الرحيل بأي ثمن الى الضفة الشمالية. سياسة المساعدات في اطار مسلسل برشلونة، كانت ضعيفة كما وقصيرة الأفق كيفا، ولا تتجه الى مساعدة الجنوبيين على تعلم صيد السمك بدل الاعتماد على العطايا " غير البريئة" هي الأخرى الواردة من الشمال.

تقدر المنظمة الدولية للهجرة أن 75 في المائة من ضحايا الهجرة السرية عبر العالم يقضون في أعماق المتوسط. ومن مجموع 40 ألف مهاجر ذهبوا ضحية الحلم والوهم منذ مطلع القرن، التهمت مياه المتوسط 22 ألف شخص. 

صحيح أن مافيات التهريب البشري تقرأ بذكاء تطورات الأوضاع في مناطق الانطلاق نحو الشمال، مترصدة مواقع فشل ممارسة السلطة وفرص الاستفادة من تفاقم الفساد، لكن هذه التحولات الظرفية لا تحجب الاختلال العنيد المزمن الذي يصنع الحلم المحفوف بالمخاطر، وهو أن فارق الدخل والمستوى المعيشي بين الضفتين يعادل نسبة واحد الى عشرة. 

هل تتنكر أوروبا لتاريخ الحوض المتوسطي كما قرأه المفكر فرنان بروديل، الذي نظر لمجال متوسطي لا يشطره الماء بل يجمعه في اطار من التكامل بين العناصر الحضارية المشكلة له، كما كان ذلك في زمن انضم فيه الإرث الإغريقي اللاتيني الى الإسهام العربي الاسلامي في بناء "وحدة" الفضاء المتوسطي وإغناء الحضارة الانسانية.

ان الحديث عن المسؤولية الأخلاقية والتاريخية وحتى الاستراتيجية لأوروبا في صياغة اجابة تجمع بين الأمني والإنساني، التنموي المستديم والعملياتي الظرفي، لا يعني رفع عبء المأساة عن أنظمة الجنوب التي زاد على فشلها في ربح رهان التنمية وضمان الحقوق الأساسية لمواطنيها، عجزها عن بناء مؤسسات وركائز دولة وطنية قوية على الارض. المقصود ان انتماء الاتحاد الاوروبي الى مدار المركز الغربي الرائد في توازنات القوة اليوم، يخوله هامشا أكبر للمبادرة وإمكانيات أوسع لخلق التأثير الإيجابي في امتداده الجغرافي والتاريخي، جنوب بحر كان يجمع أكثر مما يفرق.