صفحات "ملوثة" في التاريخ.. مرشحة لتزداد وتكون أشد تلوثاً

العالم
نشر
11 دقيقة قراءة
صفحات "ملوثة" في التاريخ.. مرشحة لتزداد وتكون أشد تلوثاً
Credit: YASIN AKGUL/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

    هبت ريح طيبة خلال الأيام القليلة الماضية على سجل التاريخ، فتحته وقلبت في صفحاته لتتوقف عند أحداث أليمة. توقفت عند صفحة  تحكي قصة إبادة شنتها القوات التركية ضد شعب الأرمن. وتوقفت مرة ثانية عند صفحة، بل صفحات عديدة، تروى فظائع ارتكبتها القوات الامبراطورية اليابانية خلال حملة غزو اليابان لمنشوريا، المقاطعة الصينية الأغنى في ذلك الحين، وتستفيض في سرد  وقائع اغتصاب  مدينة نانكنج، عاصمة الصين. توقفت مرة ثالثة عند صفحات تسرد تفاصيل مأساة ضحاياها من نساء كوريا الجنوبية  والفليبين ونساء أمم أخرى مرت عليها قوات اليابان خلال حملتها لاحتلال هذه الدول وغيرها من دول منطقة جنوب وجنوب شرقي آسيا، وخلال انسحابها منها. أطلقت هذه الصفحات لقب «نساء الراحة» على عدة آلاف من الأطفال والفتيات والنساء اللاتي تعرضن لاعتداءات جنسية أو لعمليات اغتصاب أو، وهو الأشد هولا، تعرضن للخدمة فى معسكرات الجيش الياباني كعاهرات مستديمات يتبادل عليهن ضباط وجنود الامبراطورية اليابانية.

                                          * * *

       مازال قادة كل من تركيا واليابان يرفضون أن تكون الإبادة أو الاغتصاب، سواء كان ضحاياها نساء أو مدن أو مزارع ومصانع، قد تمت على النحو المسجل في صفحات التاريخ . أما الشعوب التي شنوا هذه الحروب باسمها، وأقصد هنا تحديدا شعبي تركيا واليابان، فمازالت حائرة بين أن تصدق قادتها فترفض هي الأخرى سجلات التاريخ وشهادات الشهود. أو تصدق المؤرخين والمتحدثين باسم المجتمع الدولي، فتندد بالجرائم وتشترك في الدعوة إلى الاعتراف كخطوة ضرورية لتحرير النفوس واستعادة كرامة الأمم الواثقة والشريفة.

   أنا شخصيا أذكر أنى سمعت قصص الأرمن وكنت ما أزال طفلا يستمع إلى روايات أصحابه من أبناء الأرمن في مصر، وسمعتها قبل أسابيع قليلة في احتفال جالية الأرمن المصرية بعيد استقلال بلادها. سمعتها أيضا من شخص حلبي تحدث بفخر واعتزاز عن دور عائلته الممتدة في حماية اللاجئين الأرمن الهاربين من تركيا في نهايات الحرب العالمية الأولى، وكيف أن بيوتا كثيرة فتحت أبوابها لهؤلاء اللاجئين وأن خياما أقيمت لإيوائهم وأطباء جاءوا من دمشق وغيرها من مدن سوريا ولبنان للاعتناء بأحوالهم الصحية.  أما القصص عن جرائم اليابان فهذه سمعتها مباشرة من شهود على الحرب اليابانية في الصين كما سمعتها في الهند. ثم قرأناها بصيغة المبالغة الشديدة  في كتب التاريخ التي قررها على مدارسنا وجامعاتنا السادة البريطانيون والفرنسيون والأمريكيون الذين خرجوا منتصرين من الحرب. هؤلاء فرضوا علينا النص التاريخي «الرسمي» لتفاصيل حروب اليابان وتصرفات جنودها في آسيا، بل أن هؤلاء السادة راحوا إلى أبعد من مجرد كتابة نصوص في مناهج التعليم، وبخاصة في كتب التاريخ، حين جندوا هوليوود واستديوهات السينما في أوروبا لإنتاج أفلام سينمائية تختار من القصص والجرائم ما يناسب رؤية الدول المنتصرة لأحداث الحرب ولمستقبل آسيا بعد الحرب.

في الحالتين، حالة تركيا  وحالة اليابان  كما في حالة المحرقة النازية، كانت الدول "المذنبة " خارجة لتوها من حرب هزمت فيها. بمعنى آخر دول لم  تملك حرية كتابة تاريخها أو تستطيع تسجيل روايتها لتجعلها الرواية الرسمية وتفرضها على مناهج التعليم واستديوهات السينما وسجلات التاريخ.

                                    ***

      بيننا ولا شك من يفهم أسباب استمرار رفض الدول المتهمة وشعوبها الاعتراف بوقوع هذه الأحداث، أو بمسئولية حكام ذلك الوقت عن هذه الكوارث. ربما كان السبب هو الحاجة إلى حماية من عاش من المسئولين والحكام من التعرض لمحاكمات جرائم حرب أو مطاردات قوى دولة أخرى. ولكن في مرحلة لاحقة، ربما تصلبت الدول والشعوب في رفض الاعتراف بماضيها المخزي بعد أن اطلعت على  حجم الابتزاز الذى يمكن أن تلجأ إليه أطراف ومنظمات ودول أخرى للحصول على تعويضات هائلة عن خسائر مادية وأرواح بشرية. ولاشك أن الحملات الإعلامية والسياسية والقضائية التي شنتها القوى الصهيونية وإسرائيل وأمريكا بشكل خاص ضد ألمانيا الاتحادية ثم ألمانيا الموحدة في هذا الخصوص، سبب كاف يجعل أي دولة مثل تركيا، بل واليابان وهى الأغنى والأقدر ماديا، ترفض الاعتراف بهذه الجرائم.

    ومع ذلك، تبقى الحقيقة صادمة، وهى أن أغلب الشعوب لا تريد أن تواجه صفحات مؤلمة في تاريخ دولها. بعض هذه الشعوب، بدافع الشعور الوطني والغيرة على سمعة بلاده، يرفض أن يصدق أن حكومات سابقة ارتكبت هذه الجرائم الفظيعة أو أن الجيش الذى يجب أن يفخر به كل مواطن لا يستحق هذه الثقة، أو أن أفراده يفتقرون إلى مكارم الأخلاق وسلوكيات التحضر والتقدم.

                                      ***

أستطيع في هذا السياق أن أفهم صعوبة الموقف الذى وجد نفسه فيه رئيس وزراء اليابان خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة. لم يكن الرجل قد غادر اليابان حين حملت إليه نشرات وكالات الأنباء ورسائل بعثاته الدبلوماسية أن الأمريكيين ينتظرون زيارته بفارغ صبر ليسمعوا منه ما طال انتظارهم له، وهو الاعتذار عما ارتكبته اليابان من فظائع خلال حروبها في منشوريا وبقية أنحاء الصين، وجرائم قواتها الغازية في نانكنج وبقية أنحاء شرق وجنوب آسيا. وصل رئيس الوزراء إلى الولايات المتحدة ليجد في انتظاره حملة أخرى مهد لها فريق من صقور النواب والشيوخ في الكونجرس. استهدفت الحملة رئيس الوزراء نفسه باعتباره من القوميين المتطرفين في اليابان الذين يرفضون تقديم الاعتذار، بل وباعتبار أن حكومته عادت تصر على أن الحرب التي شنتها اليابان في آسيا في ثلاثينيات القرن الماضي وامتدت إلى الحرب العالمية الثانية، إنما كانت"حربا لتحرير آسيا من الاستعمار الغربي". وأنها، أي الحكومة، ربما كانت بصدد إصدار تشريعات تضعف من قيمة الأحكام الصادرة عن محاكمة جرائم الحرب التي أعقبت هزيمة اليابان.

    كان واضحا منذ بداية الزيارة أن الزائر الياباني لن يعتذر . فالمناهج لم يمسها التغيير استعدادا لزيارته الأمريكية رغم إيحاءات تصورتها أجهزة إعلام أمريكية ونقلها وسطاء آسيويون تلمح إلى نية وضع مناهج جديدة تحكى حكاية يابانية قريبة من حكايات الغرب المنتصر. ومع ذلك كان أقصى ما يأمله المسئولون الأمريكيون الحريصون على علاقة قوية متواصلة مع اليابان هو أن يصدر عن اليابان أثناء الزيارة ما يشير إلى ندم اليابان، وكثيرون في مراكز عصف ذهني نصحوا إدارة أوباما بعدم إحراج رئيس الوزراء  للحصول منه على اعتذار واضح.

                                        ***

لم يكن خافيا على المسئولين اليابانيين الذين أعدوا للزيارة أن المشكلة التي ستواجههم خلال الزيارة ستكون مع المحافظين المتشددين من الجمهوريين، ولذلك ركزوا في خطاب رئيس الوزراء وتصريحاته على التناقض الكامن في خطاب المتشددين. إذ بينما يعترض هؤلاء على صعود اللهجة الامبراطورية في الخطاب السياسي الياباني في الآونة الأخيرة، وعن المطالبات العديدة بإعادة صلاحيات كثيرة إلى منصب الإمبراطور، هذه الصلاحيات التي حرص الأمريكيون على أن لا توجد في الدستور الياباني الذي صاغوه بأنفسهم، لاحظنا أن عدد لا بأس به من هؤلاء الجمهوريين المتشددين ألمح إلى رضائه عن نية الحكومة اليابانية الاستمرار في سياسة زيادة الانفاق العسكري، وباللهجة الحكومية الجديدة التي تشيد بدور أمريكا في الحرب العالمية الثانية وبالضحايا الأمريكيين الذين سقطوا في هذه الحرب، وهو بالفعل ما ركز عليه الخطاب الياباني الموجه إلى الكونجرس الأمريكي والرأي العام الأمريكي.

                                      ***

      يبدو أن الصقور العديدين الموجودين داخل حكومتي الطرفين الأمريكي والياباني، لا يزالون يعيشون أحلام ما قبل الحرب العالمية الثانية. هؤلاء يتجاهلون حقيقة أن هناك على الأراضي الصينية تقوم دولة عظمى يجرى صنعها وتمكينها وتحصينها بأحدث ما وصل إليه العلم وأدوات القوة وأساليب المنعة الاقتصادية، هذه الدولة الشابة لن تقبل بأقل من  «الاعتذار»  عن كل ما ارتكبته اليابان على أراضيها خلال سنوات عديدة في النصف الأول من القرن العشرين. سكتت طويلا. خلال سنوات البناء والنهوض، ولكن لا أحد في الصين يقبل بمجرد طرح فكرة السماح بعودة اليابان دولة امبراطورية، ولا أحد فيما يبدو مستعد حتى لأن يقبل بإعلان  اليابان الندم بديلا للاعتذار.

   قراءة ثانية لتطورات الجدل حول فظائع ارتكبتها تركيا واليابان تشير بكل الوضوح الممكن إلى أن صفحات في التاريخ سوف تبقى ملوثة، وأنها، على ضوء ما تعانيه هذه الأيام شعوب عديدة في أنحاء كثيرة وبخاصة في منطقتنا العربية، مرشحة لتزداد عددا ولتكون أشد تلوثا.