الرباط، المغرب (CNN)— يودع المغاربة شهر رمضان على إيقاع قضايا جدلية ساخنة طفحت بها ساحة النقاش العمومي وقسمت شرائح الراي العام والنخب الى معسكرات متضاربة المواقف، لكن موضوعا رمضانيا متجددا جمع الكل على قلب رجل واحد، وهو العرض التلفزيوني الدرامي الذي أثار حالة تذمر عامة وإن تعددت زوايا الانتقاد وتفاوتت حدة الاستياء من مستوى الاعمال المقترحة.
فإزاء الانتقادات الشديدة التي وجهت الى القنوات التلفزية المغربية في برمجتها الرمضانية خلال المواسم السابقة، ساد ترقب واسع لجديد هذا العام ومتابعة مدى وفاء هذه المؤسسات بوعد تقديم منتوجات درامية تشبع نهم مشاهد ترسخت لديه ثقافة الاطلاع على تجارب وثمرات الإبداع الرمضاني في القنوات الفضائية العربية والدولية، لكن، ورمضان يسدل ستاره، فإن الحصيلة جاءت مخيبة للآمال، لتتواصل ظاهرة الهجرة الجماعية للمشاهدين المغاربة إلى الشرق والغرب.
أعطاب بنيوية في الصناعة الدرامية، اختلالات في تنظيم المهن الفنية، سوء تعامل مع برمجة رمضانية لها متطلباتها الخاصة، إشكالية تأهيل العنصر البشري... هي جملة افتراضات متكاملة تتضافر لتقدم عناصر تفسير لهذه الحصيلة التي عمقت أزمة الثقة بين المشاهدين المغاربة من جهة والمؤسسات التلفزيونية والوسط الفني من جهة أخرى.
ينحو الناقد السينمائي والتلفزيوني أحمد سجلماسي باللائمة على طريقة الاشتغال التي لم تتغير بشكل جذري منذ عقود، إذ "كيف يعقل أن تنتج أعمال رمضان في وقت قياسي لا يتجاوز شهورا معدودات قبل البث" ؟ فهذه السرعة القياسية في الإنجاز تنعكس سلبا على جودة الأعمال الدرامية وغيرها ناهيك عن "فتح المجال أمام من هب ودب للمشاركة في هذه الإنتاجات، ممّا يؤدي إلى أعمال فارغة فكريا وباهتة إبداعيا أي غير مقنعة شكلا ومضمونا" .
ولاحظ سيجلماسي في حديث لموقع CNN بالعربية أن الخلل يشمل جل الأعمال مع استثناءات قليلة (بعض الأفلام التلفزيونية ك" صمت الذاكرة " لعبد السلام الكلاعي وبعض المسلسلات ك " وعدي " لياسين فنان أو " مقطوع من شجرة " لعبد الحي العراقي ... ، وهو خلل مرده أيضا، حسب الناقد، الى ارتفاع سقف الإنتظار كذلك، "لأن المشاهدين المغاربة ملوا من الأعمال التافهة والمكرورة كل رمضان وبحكم متابعتهم لأعمال عربية وأجنبية متميزة في قنوات الآخرين أصبحوا لا يقبلون إلا بالجيد من الأعمال وبالتالي هجروا القنوات المغربية التي لم تأت بالجديد المتميز".
وخلص سيجلماسي الى ضرورة المراهنة على المبدعين الحقيقيين في الكتابة الدرامية وفي الإخراج والتشخيص وباقي التخصصات ، كما ينبغي سد الأبواب في وجه الفاشلين إبداعيا والمتطفلين على فنون التلفزيون والمتاجرين (بإسم الفن) في الأموال العمومية المخصصة لإنتاجات رمضان وباقي شهور السنة. وطالب أيضاً بتشجيع المنتجين الحقيقيين، باقتناء أعمالهم المتوفرة على الحد الأدنى من الجودة وتجاوز سياسة الإعتماد على " منفذي الإنتاج " التي أبانت عن فشلها الذريع .
ومن موقع يجمع بين المنتج التلفزيوني والناقد، يرى ادريس الإدريسي أن الانتاج التلفزيوني الوطني "يعيش وضعا شاذا ومتوترا وضبابيا بحيث يصعب الحكم عليه وتقييمه وفق ضوابط علمية مرتبطة بمنطق العرض والطلب ، وميولات الجماهير المستهلكة" .
وبتشخيص سلبي حاد وشامل، يقول الإدريسي في حديث لموقع CNN بالعربية : "القيمون على هذا الانتاج لا يعقدون ندوات صحفية وتواصلية يطرحون من خلالها استراتيجياتهم والمرتكزات التي تحكم اختياراتهم ، والنقد التلفزيوني الذي يدخل بعضه في تواطئات ومصالح، يفتقر جله الى الموضوعية ، وبعضه الآخر ينصب نفسه وصيا على ذوق الجماهير وقليل منه يتسم بالجدية، بينما الجماهير العريضة المستهلكة أفسدت الرداءة ذوقها".
في المقابل، ومن وحي تجربته على مدى 25 سنة في مجال الانتاج، يعتبر الإدريسي ان هناك تراكما كميا يمكن الانطلاق منه من أجل تطوير تجربة الانتاج خاصة في مجال الدراما بعد ـن تم تجاوز معضلات غاية في الأهمية، وخصوصا الجانب المالي، حيث تتوفر الان ميزانيات كبيرة كافية لإنتاج الجودة ، والجانب المتعلق بالتقنيات والتي حققت فيها التلفزات الوطنية والشركات الخاصة قفزة نوعية تواكب آخر التطورات، فضلا عن كون العنصر البشري التقني والذي كان الحقل التلفزيوني يعيش نقصا منه، أصبح الان متوفرا بفضل تضاعف وتيرة الانتاج وتوجه الشباب الى التكوين في المعاهد.
لكن ما ينقص للخروج من المأزق حسب المنتج والناقد المغربي هو الاعتناء بالعنصر البشري المدبر لعملية الانتاج والاعتماد علي العناصر المجربة والتي تتوفر لها الخبرة والنزاهة، وحل الخلافات الموجودة بين التلفزات والوزارة الوصية لإعادة النظر في دفاتر التحملات خاصة ما يتعلق بطلبات العروض لانها خلقت متاعب كبيرة ، وأدت الى نتائج عكسية اساءت للإنتاج.
وركز الإدريسي على ضرورة الاعتناء بصناع المضمون خاصة كتاب السيناريو ، لسد النقص الحاصل في هذا المجال وتوفير الظروف الملائمة والتكوين والتحفيزات الضرورية من اجل حل اشكالية المضامين، كما دعا القنوات التلفزيونية الى تحمل مسؤوليتها باعتبارها المنتج الفعلي ، في مواكبة كل مراحل الانتاج للحد من جشع بعض شركات الانتاج ومراقبة مدى تنفيذها لدفاتر التحملات التي تربطها بالقنوات باعتبارها شركات تنفيذ انتاج لا غير.
وفي انتظار سد هذه الثغرات البنيوية وبدء رحلة طويلة لاستعادة المشاهد المغربي، يبقى الموسم الرمضاني المشارف على الانتهاء، بتعبير قطاع كبير من مراقبي الحقل التلفزيوني والدرامي بوجه خاص، فرصة ضائعة أخرى على طريق المصالحة بين الشاشة وأهلها.