هذا المقال بقلم د. ألون بن مئير، وهو لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
لقد وُصف الإتفاق مع إيران بشكل ٍ عامّ على أنه إمّا جيّد أو سيّء، والكثيرون قالوا عنه بأنه تاريخي وله آثار إقليميّة وحتّى عالميّة بعيدة المدى. أنا أختلف كليّا ً مع أوصاف الصفقة على أنها جيّدة أو سيّئة تماما ً، ولا يجوز بالتأكيد نعتها حاليّا ًعلى أنها تاريخيّة. وما سيقرّر عمّا إذا كانت الإتفاقيّة مع إيران ناجحة أم لا أو عمّا إذا كانت ستجتاز عتبة كونها تاريخيّة أم لا، هي كيفيّة تنفيذ هذه الصفقة وعمّا إذا ستمتلك إيران في نهاية المطاف أسلحة نوويّة في غضون خمسة أو عشرة أعوام أم لا، وكيف ستتصرّف الولايات المتحدة بشكل ٍ خاصّ خلال تنفيذ العمليّة.
وأولئك الذين يدّعون بأن الصفقة سيّئة يشيرون إلى أنّها تسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم بشكل شرعي ولا تطالبها بتفكيك أيّ من منشآتها النوويّة وتسمح لها بالإستمرار في بحوثها وتطوير جيل ٍ جديد من وحدات الطرد المركزي وتقنية الصواريخ العابرة للقارات. ويواصل هؤلاء حججهم بالقول أنّ إعفاء إيران من العقوبات سيفتح لها موارد ماليّة أكبر بكثير من ذي قبل لتمويل مجموعات إرهابيّة ودعم فصائل متطرّفة مثل حركة حماس وحزب الله وزعزعة استقرار أنظمة سنيّة عربيّة. أضف إلى ذلك، وبسبب نزعة إيران الطبيعيّة للغشّ، فالأمر لن يتعدّى سوى مسألة وقت حتّى تحقق إيران هدفها المنشود في حيازة أسلحة نوويّة.
أمّا الجزء الأشدّ اعتراضا ً عليه من الصفقة فهو – على أية حال – عدم قيام الولايات المتحدة بربط الصفقة بنشاطات إيران المشينة داخل وخارج المنطقة، الأمر الذي جعل من المسألة النووية قضيّة خطرة ومقلقة.
تقف الإنتقادات الدوليّة حول برنامج إيران النووي في تناقض صارخ لردّ الفعل حول اختبارات الهند والباكستان للأسلحة النوويّة في عام 1998 في غضون أسابيع فقط عن بعضها البعض. وبالّرغم أنّه كان هناك إدانة دوليّة وقامت الولايات المتحدة بفرض بعض العقوبات، غير أنّها رُفعت بعد بضعة أشهر فقط.
خلافا ً لإيران، لم تُقحم على أية حال أيّ من الدولتين المذكورتين أعلاه نفسها في نشاطات سريّة وتخريبيّة. فإيران تقوّض أنظمة حكم وتدعم منظمات إرهابيّة وتدعو بشكل ٍ مستمرّ للقضاء على دولة عضو في الأمم المتحدة، ألا وهي إسرائيل. فلو لم تكن إيران منشغلة في مثل هذه النشاطات، لما كان هناك صخب وجلبة حول برنامجها النووي ولا استمرّت العقوبات طيلة هذه الفترة.
ففصل سلوك إيران عن الصفقة النوويّة هو في نهاية المطاف أمر ٌ مناف ٍ للعقل لأنّ المخاوف حول برنامج إيران النووي تنبع مباشرة ً من حقيقة أنّه لا يمكن الوثوق بإيران والإطمئنان إليها بأسلحة نوويّة نظرا ً لسلوكها.
أمّا بالنسبة لوصف الصفقة ب"حدث تاريخي"، فأنا لا أتفق مع الكثيرين ممّن يروّجون لها بهذه الطريقة. إنّ الهدف كما يبدو من استخدام هذا النّوع من المبالغة والبلاغة اللفظيّة هو للإدّعاء بأن إيران قد قلبت الصفحة وأنّه لا عودة للنهج الذي كانت إيران تسير عليه وأنّه قد بزغ فجر يوم ٍ جديد. ولكن هل تشكّل هذه الإتفاقيّة بالفعل "حدثا ً" بمعنى أنها تمثّل نقطة تحوّل جذريّة في سياسة إيران ؟ الحدث الحقيقي بالنسبة للفيلسوف ألان باديو يسمح بشيء جديد كليّا ً لأن يظهر إلى حيّز الوجود – إنّه يعني نوع من البتر أو القطيعة، تغيّر مفاجىء لحالة الأشياء والإنصراف عن الإفتراضات السائدة والأفكار والأحكام المسبقة. يقول:"الحدث يعني الخلق أو التكوين المفاجىء ليس لواقع ٍ جديد، ولكن لعدد ٍ لا يُحصى من الإمكانيّات الجديدة".
بالنسبة للفيلسوف باديو، كان الربيع العربي "حدثا ً" عندما ذكّر الشعبان التونسي والمصري العالم بأن "الإنتفاضة هي النوع الوحيد من "الآكشن" الذي يعادل شعورا ً مشتركا ً حول الإحتلال الفاضح من قبل سلطة الدّولة". وبالرغم من أنّ الربيع العربي يبدو وقد تبدّد واندثر، إلاّ أنّه بالفعل حدث تاريخي. فيقظة الشّباب العربي ما زالت في بدايتها وأي نظام عربي لا يحتضن روح الرّبيع العربي لن يفلت من غضب شعبه بصرف النّظر عن المدّة التي سيستغرقها.
أرى بأن الصفقة مع إيران لا تمثّل بالتأكيد حدثا ً بهذا المعنى، وبالفعل، إن كانت ستثبت يوما ً ما بأنها حدث تاريخي بأية طريقة مجدية، فإنّ هذا ما سيكشف عنه المستقبل. وقد تتحايل إيران بعد كلّ شيء على الصفقة عن طريق الغشّ. وحتّى الإمتثال الكامل لا يمنعها من مواصلة دعمها "للديكتاتوريين القتلة أمثال الرئيس السّوري بشّار الأسد" وشنّ حروب ٍ بالوكالة لخدمة أجندتها الوطنيّة. أضف إلى ذلك، فالصفقة تنتهي بعد عشرة أعوام تكون إيران بعدها عند مرحلة ٍ تتمتّع فيها بحريّة أكبر للسعي وراء حيازة الأسلحة النوويّة وهو احتمال لن تقف حياله إسرائيل والمملكة العربيّة السعوديّة ودول أخرى مكتوفة الأيدي على أمل أن تحوّل إيران نفسها نوعا ً ما لجارة طيّبة وجديرة بالثقة.
وعلى ضوء ما تقدّم، ليس هناك بديل حيويّ آخر لهذه الصفقة. فمن يدعمها يجادل بشكل ٍ صحيح بأن الصفقة جيّدة لأنها تأخّر بشكل ٍ ملحوظ طموح إيران لامتلاك أسلحة نوويّة على الأقلّ للعشرة أعوام القادمة. إنّها تجبر إيران على تخفيض مخزونها من اليورانيوم المخصّب بنسبة 98 % وتعيق منشأة أراك من إنتاج بلوتونيوم جاهز لتصنيع الأسلحة النوويّة وتخفّض من عدد وحدات الطرد المركزي بمقدار الثلثين وتحوّل منشأة فوردو إلى مركز بحوث وتسمح بعمليّات تفتيش داخليّة لم يسبق لها مثيل.
أضف إلى ذلك، ستطيل الصفقة (من بضعة أشهر إلى سنة) الإطار الزمني الذي قد تصل من خلاله إيران لنقطة الإختراق، الأمر الذي قد يمنح الولايات المتحدة مزيدا ً من الوقت لاتخاذ الإجراء المناسب، حتّى عسكريّا ً. وأخيرا ً يقول المؤيّدون للصفقة بأن إيران عندما تكون أكثر رخاء ً وأمناً قد تتخلّى عن طموحها للحصول على أسلحة نوويّة وقد تصبح حتّى لاعبا ً بنّاءا ً في المجتمع الدّولي.
والآن وقد تمّت الموافقة على الصفقة بالإجماع من قبل مجلس الأمن الدّولي، فقد أصبحت من الناحية القانونيّة وثيقة شرعيّة – ولكن هذا لا يضمن أن تلتزم إيران بشروطها وبنودها، ناهيك عن وقف نشاطها الهدّام. وللوصول إلى هذه الغاية، ولتنفيذ الصفقة يجب على الولايات المتحدة ألاّ تركّز فقط على منع إيران من حيازة الأسلحة النوويّة بل كيف تجبرها على تغيير سلوكها الذي كان وما زال السبب الحقيقي الذي حرّض على إثارة الضجّة العالميّة ضدّ برنامج إيران النووي.
أوّلاً، الآن وقد أصبح هناك قنوات مفتوحة ما بين الولايات المتحدة وإيران، على واشنطن أن تكون واضحة ً تماما ً (خلف الكواليس) مع إيران بأنه يجب على هذه الأخيرة أن تتوقّف عن سلوكها العدواني وبأنّ الولايات المتحدة لن تتوانى في اتخاذ إجراءات عقابيّة مؤلمة لوقف هذا السّلوك، بصرف النّظر عن الإتفاقيّة.
ثانيا ً، بالرّغم من النّفور القائم ما بين الرئيس أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على كلّ منهما أن يتنازل من جانبه عن شيء للآخر ويصلحا علاقاتهما. هذه الصفقة، مهما كانت مشينة، هي أفضل لإسرائيل من عدمها. ووقوف الحليفين جنبا ً إلى جنب سيعطي رسالة واضحة لطهران بأن لا شيء يمكن أن يمسّ بالتزام أمريكا بأمن إسرائيل القومي. هذا قد يساعد بشكل جوهريّ بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي على تغيير رأيهم من معارضة الإتفاقيّة إلى دعمها.
ثالثا ً، على الرئيس أوباما أن يعزّز بشكل ٍ جذريّ أمن دول الخليج بتزويدها بالأسلحة والتدريب اللازم لتحذير إيران بأنّ الولايات المتحدة لن تتسامح أو تتساهل أبدا ً بأي تدخّل ٍ في شؤون حلفائها في الخليج. وينبغي على الولايات المتحدة أيضا ً أن تأخذ بعين الإعتبار طرح معاهدة دفاع رسميّة قد تمنع بالمقابل انتشار الأسلحة النوويّة في المنطقة إذ أنّ المملكة العربيّة السّعوديّة ومصر قد لمّحتا عن عزمهما في السعي وراء امتلاك مثل هذه الأسلحة في صحوة الإتفاقيّة مع إيران.
رابعا ً، بصرف النّظر عن حرص الرئيس أوباما على الإبقاء على الإتفاقيّة وتعزيزها، ينبغي على الولايات المتحدة تحت أية ظروف ألاّ تسمح لإيران بارتكاب أية مخالفة أو خرق أيّ شرط مرتبط بالإتفاقيّة بدون عقاب. هذا سيعزّز جذريّا ً إمكانيّة أن تلتزم إيران بالكامل بكلّ بند ٍ من بنود الإتفاقيّة مهما بدا ضئيلا ً أو تواجه عواقب وخيمة.
خامسا ً، على الرئيس أوباما الإستفادة من المخاوف المشتركة التي تجمع الدّول العربيّة السنيّة وإسرائيل حول التهديد الإيراني. وهنا ينبغي على الولايات المتحدة أن تيسّر قيام وتطوّر خطّة إستراتيجيّة بين الطرفين، وجزء من هذه الخطة موجود ويعمل حاليّا ً، وذلك لتقويض أية محاولة قد تقوم بها إيران لإرهاب جيرانها.
وبالرّغم من أنّ الرئيس أوباما ينظر للصفقة مع إيران كأهم إنجاز يحمل بصماته في سياسته الخارجيّة، فإنّه لن يرى بالتأكيد ثمارها فيما تبقّى له من فترة رئاسته. سيترك وراءه هذا العمل الغير منجز لخلفه، وتركته ستبقى معلّقة في الميزان لسنوات ٍ قادمة قبل أن يصدر المؤرّخون بشأنها حكمهم النهائي.