المغرب، الرباط (CNN)— من اكتساح الساحات العمومية والملاعب والأزقة الى ارتياد فضاءات العالم الأزرق في الفايسبوك، ومن استخدام الأبواق التقليدية في الأسواق الشعبية وتوزيع المنشورات الورقية الى تصميم الوصلات الاعلانية على المواقع الالكترونية، اكتست الحملات الانتخابية في المغرب وجها جديدا في أفق الاستحقاقات البلدية المقررة يوم 4 شتنبر/أيلول المقبل.
لا صوت يعلو على صوت قوافل المرشحين وهي تجوب شوارع المدن ومسالك القرى، مرددة شعارات مسكوكة في مديح " المهدي المنتظر" الذي يعد بحل المشاكل وتلبية المطالب الصغيرة والكبيرة التي تبدأ من فتح صنبور ماء في حي صفيحي معزول ولا تنتهي بتوطيد الديموقراطية ومحاربة الفساد. وبين الوعود وتجسيدها على الأرض، يراهن كثيرون من الطامعين في مزيد من الأصوات على النسيان. لسان حالهم يقول: الظفر بالمقعد أولا، وبعدها...." يحلها الحلال".
أجواء حملة 2015 تسمح بالوقوف على الازدواجية وتفاوت السرعات في تطور البلاد والمجتمع ككل. في المداشر والقرى والأحياء الصفيحية والشعبية، لازالت الوسائل نفسها تحسم السباق. يبدأ المرشح صباحا، مرفوقا بثلة من المساندين، بحضور لافت للشباب والنساء، جولات اللقاء المباشر مع أبناء الدائرة الانتخابية، يطرق أبواب البيوت واحدا واحدا، يتبادل الابتسامات والقبل مع الناخبين. يغتنم السوق الأسبوعي ليطوف عبر مرافقه، يسبقه شباب يمطر قارعة الطريق بالمناشير الدعائية. يقيم منصة يلقي فيها خطبة عصماء عن واقع الحال وعن مشاريع المستقبل " الوردي" متحدثا في مكبر صوت عتيق.
في المقابل، يبدو الوجه الحداثي للحظة الانتخابية في المغرب مجسدا في الانفجار الذي شهدته وسائل التواصل الاجتماعي حيث احتدم سباق من نوع جديد على صنع " الفرقعات الاعلامية" من خلال المواقف والخطابات والصور ومقاطع الفيديو المبثوتة على الصفحات الشخصية للمرشحين والمناضلين والمتعاطفين، وأيضا الناقمين الساخرين من " سماجة اللعبة الانتخابية برمتها" على حد قول البعض.
وقد أشعل الفيسبوك أولى السجالات في الساحة المغربية حين علق مرشح حزب يميني على صورة زعيمة حزب يساري معروف بمواقفه المُعارضة، بتعابير تحمل نبرة استهزاء وميز جنسي، ممّا أثار ضده ردود أفعال ناقمة من طرف الناشطين السياسيين الذين انتقدوا ما وصفوه بـ " انحطاط" الخطاب السياسي.
للصورة دورها التواصلي الهام. وواضح أن المرشحين فهموا اللعبة، فبادروا إلى تغذية وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية بصور قاسمها المشترك إظهار الفاعل السياسي في ثوب التواضع و التلقائية والبشاشة. يبدو أحدهم معانقا بائعا متجولا، وأخرى ترتشف كوب شاي في زقاق شعبي بينما ينضم ثالث لملاعبة صغار يلهون بالكرة.
وعلى هذا الصعيد، دخلت الأحزاب المغربية الرئيسة ساحة حرب اعلامية افتراضية من خلال جيوش الكترونية صممت بوابات ومواقع خاصة بالمعركة الانتخابية ذات الأهمية الكبيرة، كونها أول انتخابات بلدية في ظل الدستور الجديد وأكبر امتحان شعبي للحكومة الحالية التي يقودها حزب العدالة والتنمية الاسلامي. أهمية تتعاظم في ظل نظام الجهوية الموسعة الذي اعتمده المغرب، والذي يوسع الصلاحيات على مستوى التدبير الذاتي للمناطق.
ومع الوعي بأهمية هذه الرهانات، فإن حرارة الحملات الانتخابية تتفاوت بين من حيث سخونتها على قدر اختلاف وسائلها التواصلية. لكن ثمة انطباعا عاما بوجود فتور في الشارع العام. فباستثناء التجمعات الكبرى التي ينشطها قادة الأحزاب الكبرى في معاقلهم الانتخابية، تراجعت ظاهرة هذه اللقاءات العامة التي يرتفع فيها النفس الخطابي. ويعزو المراقبون ذلك الى " انقراض" قيادات سياسية تجمع بين الكاريزما والتمكن من البلاغة الخطابية التي تهز الحشود، ناهيك عن اتساع دائرة العزوف عن السياسة ك " كلام". يقول أحدهم بلهجة ساخرة " لقد أخذت ما يكفيني من اللقاح ضد الخطابات والوعود التي تذهب مع الريح".
في هذا الحي الشعبي الساحلي بالعاصمة الرباط، تتعاقب قوافل المرشحين في الدائرة. يمكن بسهولة تحديد الفوارق بين الوجوه التي تنشط هذه الجولات الدعائية. فعدا بعض الأحزاب الإديولوجية القليلة، التي تعول على تضحيات وتطوع منخرطيها المؤمنين بمبادئها وخياراتها، بدأ يتوارى دور المناضلين ويتوسع الاعتماد على خدمات أجراء مياومين. مقابل 150 درهما ( 15 دولار) في اليوم، ينضم هذا الشاب العاطل عن العمل والذي ينحدر من حي صفيحي خارج الدائرة الانتخابية، الى مجموعة الشباب التي تصاحب المرشح في جولاته، يرفعون الشعارات، يوزعون المنشورات، ويضربون على الدفوف أيضا.
بالنسبة له، ولغيره من شباب الحي الصفيحي ونسائه، ليست أيام الحملة الانتخابية إلا موسما لمدخول طارئ ينعش الجيب الخاوي. بل انه لا يتردد في المشاركة في اكثر من حملة لمرشحين من ألوان متضاربة لزيادة حصته من هذا الريع.
أمام قافلة حاشدة من أفراد حملة أحد الأحزاب الكبرى، يقف مرشح حزب صغير متأملا، ليقول: " لا تخيفني هذه الجحافل. إنها مجرد استعراض قوة، اعتمادا على عناصر مأجورة. الخشية من استخدام المال لشراء الأصوات". هذا المرشح المثقف لا يثق كثيرا في وسائل التواصل مهما كانت طبيعتها، في ظل استمرار مظاهر الهشاشة الاقتصادية من جهة، والفساد الانتخابي من جهة أخرى. يقول بلهجة محبطة: " مهما كانت قوة الأجهزة الرقابية، ففي غياب ضمير سياسي أخلاقي، قد لا تقف كل وسائل التواصل والاقناع أمام سطوة المال، خصوصا في دوائر انتخابية يسودها الفقر والاقصاء".
تتعدد الوسائل، وتدخل الحملات الانتخابية بالمغرب عصر التواصل السياسي الحديث من بابه الواسع، باستخدام منجزات تكنولوجيا المعلوميات، غير أن شريحة واسعة من الخبراء والناشطين لم يخفوا إحباطهم من ضعف مضمون الخطاب السياسي لدى المرشحين وهيآتهم. بالنسبة لهم، يكمن الاشكال في المنتوج السياسي المطروح للتسويق، والذي لا زال متمركزا على العلاقة المباشرة للمرشح بالناخبين وسمعته الشخصية بدل التركيز على تفاعل موضوعي بين ناخبين واعين وبرامج حزبية ناضجة ومتمايزة.